أخيراً وللمرة الأولى في التاريخ تبدأ مناظرة “جدية” بين الإلحاد والإيمان..

لماذا أقول للمرة الأولى؟

بكل بساطة لأني أعتقد أنّ كل المناقشات التي كانت من قبل لا يمكن اعتبارها مناظرات حقيقية ولا ردوداً حقيقية على الإلحاد العلمي، ولأنها مناظرات ونقاشات بين من يدّعون تمثيل الأديان ويحملون نظرة خاصة وفهماً خاصاً للنصوص الدينية وبين ملحدين يردّون على دين يقدّمه فقهاء الدين وليس على الدين نفسه.. وربما كلامي هذا لن يرضي البعض!

فمن منّا لم يطرح ولو لفترة في حياته أسئلة وجودية وبحث لها عن أجوبة تشبع فضول الإنسان في بحثه الدائم عن علل الأشياء وأصولها سواء كانت هذه الأسئلة على مستوى الحياة على هذه الأرض مثل: “لماذا وجدنا؟”، و “هل للحياة معنى؟”، و “من هو الانسان؟”، و”من أين أتت حضارتنا؟”، أو على مستوى الكون كله مثل: “كيف يمكننا أن نفهم الكون الذي نعيش فيه؟”، أو “هل أن الكون احتاج إلى خالق؟”.

والأجوبة الممكنة كثيرة ومتنوعة جداً، ولكنها تبدو وكأنها انحصرت أخيراً في الاختيار بين أمرين: الإله أو العلم… الإيمان بإله أو الإيمان بالعلم؟

… فهل علينا فعلاً كما يبدو أن نختار بين الإيمان بإله أو الإيمان بالعلم؟

والحقيقة إني أرى الإلحاد اليوم، ولأسباب منطقية، مغتبطاً بانتصاره العلمي على رجال الدين. فمن يدّعون تمثيل الأديان يردّون على المواضيع العلمية التي يرونها معارضة للدين دون فهم لا للنصوص الدينية ولا للنظريات العلمية. لقد وجدت شخصياً من خلال قراءاتي لردود رجال الدين أو من خلال مشاهداتي للقاءات أو برامج مرئية، أنهم في مرات كثيرة يفهمون فهماً خاطئاً مشوّهاً تماماً ثم يردّون على فهمهم الخاطئ بأقوال ساذجة مع بعض المزيج المعتاد من المغالطة والاستعطاف.

فمن لم يسمع هذه الجملة: “التطور يدّعي أن الإنسان أصله قرد”! وهو أمر بالمناسبة خاطئ تماماً، أو “التطور يريد أن نؤمن أنّ كل ما نراه صدفة”! وهي مع الأسف كلمات غير صحيحة ولكن لها أنصارها! وهذه الكلمات تصدر من رجال الدين أو أتباعهم إما عن عدم اطلاع أو عن قصد، والنتيجة نفسها.

وقد بدأ أخيراً البعض من رجال الدين وتحت تأثير قوة أدلة النظريات العلمية بالاستسلام والاعتراف بأنها صحيحة من جهة، وبأنها لا تعارض الدين من جهة أخرى!

لكن….. كيف لا تعارض الدين!؟

فالنظريات العلمية التي ينظر لها الملحدون الآن تمثّل أطروحة متكاملة ترسم لوحة أخرى عن نشأة الكون وتطوره ونشأة الحياة على الأرض وتطورها دون الحاجة لفرضية “وجود إله”، بل اللوحة تحتوي أيضاً على قصة نشأة وتطور الدين كنتاج إنساني. إذن للخلق قصة علمية لا تحتاج بنظرهم لوجود إله واعٍ وهادف كاتباً لها. فهل يمكن أن يقول عالم عاقل باجتماع قصة العلم الحالية كاملة مائة بالمائة مع الإيمان بإله دون أن يعطي حلاً للتناقضات بينهما؟

فلدينا تفسيران مختلفان يظهران متناقضين، ويذكرنا هذا المشهد بالنظريات الخمسة للأوتار، والتي وضعت للجمع بين نظرية الكم ونظرية النسبية العامة، حيث كانت تظهر مختلفة ومتناقضة فكان أن جاءت نظرية كل شيء أو نظرية M لتبين أنها كلها رؤيات مختلفة لنفس الحقيقة.

كتاب “وهم الإلحاد” يرفع التناقضات ويضع كل جزء في مكانه لترى “كل شيء” في لوحة واحدة متناغمة!

لقد عرف أحمد الحسن تماماً كيف يثير انتباه واهتمام القارئ غير المتخصص، وكيف يوصل له المعلومة العلمية، وفي نفس الوقت عرف تماماً كيف يستوقف العالم المتخصص عند النقاط التي ينبغي الوقوف عندها!! مهمة من الصعب إنجازها..

فالكتاب يناقش وبأسلوب علمي دقيق منقطع النظير أهم النظريات المثبتة تجريبياً أو رياضياً ونظرياً، ويتعرّض لمختلف العلوم مثل: علم الأحياء التطوري، وعلم الهندسة الجينية، والطب، والانثروبولوجيا، والجيولوجيا التاريخية، والتاريخ القديم، والاركيولوجيا، والفيزياء النظرية، والكوزمولوجيا، والفلسفة، وغيرها.

ومن المهم أن أشير إلى أن الكتاب في الحقيقة يحتوي على مناظرة علمية من الطراز العالي مع البروفسور ريتشارد دوكنز الذي يعتبر من أكبر علماء الأحياء التطويرية المعاصرين، ومناظرة مع البروفسور ستيفن هوكنج وهو من أكبر علماء الفيزياء النظرية والرياضيات التطبيقية المتخصص في علم الكون صاحب النظرية المثبتة في اشعاع الثقوب السوداء، وتتخللهما مناظرة علمية مع الباحثين في الحضارات القديمة الذين هم على منهج البروفسور صموئيل كريمر في قراءة تاريخ الإنسان القديم التي تخلص إلى أن الدين نتاج إنساني نشأ قبل آلاف السنين وتطور مع السومريين والاكديين، ثم إلى المسلمين، مروراً باليهود والمسيحيين.

ولن أكون مبالغاً إن قلت: إن الكتاب يأخذك وبأسلوب رائع وواضح إلى حد يثير الدهشة في رحلة استكشافية تنطلق من “الإنسان” لتعود إلى “الإنسان”، رابطة بين أعمق المسائل العلمية المتعلقة بأصل الحياة والجنس البشري وطبيعة الكون من ناحية، وبين وجود إله هادف حكيم مقنن من ناحية أخرى، تجعلك تقتنع على الأقل مؤقتاً بأن لا شيء آخر ممكن أن يكون أكثر أهمية من معرفة هذا الإله. رحلة تتألف من ستة فصول تستحوذ على اهتمامك من أول صفحة إلى آخر صفحة، يثبت فيها أحمد الحسن أن العلم لا يوضع بمقابل وجود الإله.

رجال الدين مرات كثيرة يقومون برد النظريات العلمية دون فهم كما سبق وأن ذكرت. وإنه لاختيار موفق هذا الذي اتخذه المؤلف حيث افتتح الكتاب في الفصل الأول ببيان هذا الدور الخطير الذي لعبه ولا زال يلعبه رجال الدين من مختلف الخلفيات، يهوداً ومسيحيين ومسلمين سنة وشيعة.. ستجد في هذا الفصل أمثلة معبّرة لبعض الردود من ممثلي الأديان والمتعقلة خصوصاً بنظرية التطور، ولا يكتفي المؤلف بسرد الأمثلة بل يحللها ويرد عليها كعالم متخصص ويبيّن خواءها العلمي ودرجة سذاجتها المؤسفة والمخجلة في نفس الوقت. ثم يبين المؤلف بعد ذلك استحالة ما يذهب إليه اليوم بعضهم من إمكانية الجمع بين القول بالتطور مطلقاً والإيمان بإله دون رفع التناقضات الظاهرة.

ثم إنّ المؤلف لا يهمل لحظة واحدة إنصاف القارئ ولا إنصاف فقهاء الأديان الذين انتقد موقفهم في الفصل الأول، فسواء كان القارئ ممن يعتقد أن نظرية التطور غير صحيحة أو أنها مجرد “فرضية” أو نظرية غير مثبتة لا زال هناك أمل أن يوجد شيء “ربما قريباً” ينقضها ويهدمها لينتصر علماء الأديان المنكرين لها أخيراً، أو كنت عالم دين له موقف مشابه لإحدى الحالات التي انتقدها الفصل الأول، فأحمد الحسن في الفصل الثاني يفسر نظريتي النشوء والارتقاء ويبين الأدلة، بصورة – أعتقد شخصياً – أنه يمكن الاستفادة منها في التدريس أو التبسيط العلمي للتطور، كعلم التشريح المقارن، والأحفوريات، والتطور في سلسلة الأحياء الموجودة، وقانون التطور الكوني العام، والانتكاس أو ضمور وفقدان الأعضاء والأنظمة البيئية المنعزلة ووجود أنظمة حياتية مختلفة فيها ووجود صفات غير سوية لدى بعض الأحياء، والتدجين والتربية، والأدلة الجينية كاندماج الكروموسوم الثاني لدى الإنسان، والاشتراك بين الإنسان وبقية الرئيسيات في الفيروسات القهقرية.

وقد رد في هذا الفصل على أهم الإشكالات التي تطرح حول النظرية، ثم تطرق لنقطة دقيقة وهي فرضيات نشوء الحياة على الأرض وعدم وجود أي نظرية علمية تفسره تفسيراً علمياً مقبولاً مؤيداً بالأدلة، وذلك في الحقيقة ثغرة في التصور الالحادي المتكامل المدعى.

وفي نهاية هذا الفصل، أو ربما قبل ذلك، ستكون قد تكونت لك فكرة جيدة لتتخذ موقفك النهائي اتجاه نظرية التطور من جهة، ومن ردود من يدعون تمثيل الأديان من جهة أخرى.

النص الديني الثابت لا يعارض نظرية التطور، والكاتب بين هذا الأمر في الفصل الثالث وأحكم أهم النصوص الدينية التي يتوهم بعض المتدينين أنها تعارض نظرية التطور وبين استحالة صحة البعض الآخر، ثم – ولأول مرة – يبين مكان آدم الديني في القصة العلمية لتطور الحياة وعلاقته مع باقي الأجناس البشرية السابقة وكيفية تطور الجسم الذي سترتبط به روحه الإنسانية في طرح فريد لم يسبق له أحد مؤيد بالأدلة العلمية والتاريخية.

ويتطرق أيضاً في نفس الفصل لما يتوهم البعض من قصة خلق جسم حواء (عليها السلام) من جسم آدم (عليه السلام) ويرد على قصة زنا المحارم بين أبنائه.

وقد أجاب في هذا الفصل أيضاً على واحدة من أعقد المسائل الدينية المستعصية التي يعتقد بها كل من المسيحيين والمسلمين ولم يجب عنها أحد أبداً لحد الآن، ألا وهي التفسير العلمي الممكن لقصة ولادة عيسى (عليه السلام) من غير أب.

وبما إنّ نظرية التطور تمثل لمن ينظرون للإلحاد نظرية متكاملة مفسرة لنشأة الحياة وتطورها وعدم الحاجة لوجود إله فأين مكان الإله فيها للمتدينين الذين يقبلونها؟ الفصل الرابع ينقلنا لإثبات وجود الإله من نفس نظرية التطور متعرضاً للخريطة الجينية وقانونية التطور أو الارتقاء بالانتخاب الطبيعي وهدفيته التي تؤدي بك وعلى أقل تقدير إلى عدم القطع بعدم وجود إله!

ومن جهة أخرى يطرح الفصل “مقاربة التصميم الذكي” حيث يحاول مؤيدوها إثبات التصميم الذكي في سلسلة الأحياء وأجزائها، وبالتالي إثبات وجود إله. لكن التصميم الذكي يواجه مجموعة من الثغرات الكبيرة، فالمصمم إن كان هو “الله” فعلمه مطلق وقدرته مطلقة ومن كان كذلك لابد أن يكون تصميمه متكامل ولا يحتوي على ثغرات، وكمثال استطالة عصب الحنجرة فما هو تفسير هذه “الأخطاء” في التصميم؟ أترككم بأنفسكم لتكتشفوا جواب أحمد الحسن.

ثم يكمل بنا الرحلة المعرفية لنصل في الفصل الخامس إلى نوع آخر من أنواع التطور “التطور الثقافي”. والحقيقة إن القفزة الثقافية وتمكن النوع الإنساني من الوقوف بوجه تيار أنانية الجينة الجارف، التي لا هدف لها إلا البقاء، بالأخلاق والإيثار الحقيقي لا تستطيع حتى نظريات الميمات شرحه وتفسير نشأته واستمرار بقائه. فما هو سبب هذه القفزة الثقافية في الآلاف الأخيرة من السنوات فقط؟

ليجيب عن هذه الأسئلة يحط بنا أحمد الحسن عند أول حضارة وثقافة ظهرت على هذه الأرض من خلال الملاحم والقصص السومرية التي مثلت قفزة ثقافية كبرى ظهرت فجأة في بلاد ما بين النهرين، فنسأل الألواح والشخصيات؛ نسأل جلجامش وديموزي..!! ونقرأ ملاحمهم بقراءة جديدة فريدة تغير زاوية رؤية هذه النصوص بــــ 180 درجة لنعرف بشكل يثير فعلاً الدهشة قصة الدين الإلهي مكتملة منذ ذلك العهد بكل تفاصيلها وحيثياتها. ثم يأخذنا معه إلى نوح وقصة الطوفان العظيم الذي ترويه الكتب السماوية مفسراً، وأيضاً – لأول مرة – كيفية وقوعه وزمنه ومكانه، وهل شمل كل الأرض وهلك كل الأحياء بهذا الطوفان كما يعتقد بعض من فقهاء الأديان الذين لا يستطيعون تعليل أبسط الإشكالات، كوجود حيوانات الجزر المعزولة فيها فقط، والإشكال الكبير عن كيفية جمع نوح لآلاف الحيوانات المختلفة الأحجام والأنواع والبيئة مع أكلها وشربها دون ذكر ملايين من أنواع الحشرات الموجودة، وعن مصدر ومآل المياه التي غمرت كل الكرة الأرضية.. كل هذه الأمور العصية على الفهم تجد تفسيرها، بما يجمع بين الدقة العلمية والنصوص الدينية المثبتة، في الفصل الخامس.

بعد نقاش نظرية نشأة وتطور الحياة على الأرض وعلاقتها بالإيمان بالإله وتفسير القفزة الثقافية في التاريخ الإنساني يناقش الفصل السادس نظرية نشأة وتطور الكون تلقائياً من “لا شيء” هذا النقاش يحتاج ليس فقط إلى نظرة جديدة للواقع وللأشياء، ولكن أيضاً لنظريات علمية قادرة على التعامل مع مستويات أخرى من الأحجام والمسافات والزمن ودرجات الطاقة والحرارة وما شابه. فالكون الذي نعيش فيه الآن أو (المشاهد منه) أكبر بكثير من الأرض ومن المجرة التي هي مجرتنا “درب التبانة” ويحتوي على عدد هائل جداً منها، وقد كان في بدايته في منتهى الصغر أصغر من أدق ذرة في خليتنا بل أصغر بكثير جداً، مجرد نقطة، وقد عرفت ولادته ظروفاً قصوى من الطاقة والكثافة وفي بعض مراحله الأولى توسع بسرعة تفوق بكثير جداً أعلى سرعة يسمح بها للضوء أن ينتقل فيه (مرحلة التضخم).

رحلة البحث عن أصل الوجود تنقلنا في الفصل السادس إلى التدقيق في كل ما يحيط بنا من مكان وزمان وقوة وطاقة ومادة وكتلة ثم جسيمات ومضاداتها وكواكب ونجوم ومجرات وثقوب سوداء ثم الضوء والمادة السوداء والجاذبية والطاقة المظلمة الغريبة.. فيوقفنا أحمد الحسن في هذا الفصل عند أحدث الاكتشافات العلمية والتفاسير النظرية، ويغوص بنا بعيداً في الماضي السحيق للخلق، أكثر من 13 مليار سنة، ويناقش نشأة الكون ونظرية الانفجار العظيم مروراً بالنسبية الخاصة والعامة وفيزياء الكم وتعدد الأكوان، ووصولاً إلى ما يرشح أن يكون النظرية “الشاملة” أي نظرية ام M Theory.

فالقفزة المهولة التي عرفها الفيزياء منذ بداية القرن الماضي وخصوصاً مع مجيء نظرية النسبية وميكانيكا الكم أدت بنا إلى معرفة مدى محدودية فهمنا البسيط للعالم والمبني على تجربتنا اليومية. في الفيزياء الحديثة هناك عدة أمور غريبة تصطدم مع نظرتنا للواقع والأشياء والتي يصعب فهمها أو حتى تخيلها، كيف يمكن فهم أن جسيماً ما (مثلاً جسيم من الضوء أو من المادة) ليس عنده مكان محدد وأنه مجموعة جسيمات شبحية أو موجة احتمالات لوجودات شبحية وأن المراقب هو من يحقق أحدها عند التوجه إليه أو عند مشاهدته؟ ثم أين تذهب باقي الوجودات الشبحية ليبقى واحد منها فقط أو لما تنهار دالة الموجة ويعود الجسيم إلى التصرف كجسم حقيقي؟ وكيف يمكن فهم أن المشاهد أو المراقب يؤثر في سلوك الجسيمات علماً أن العالم كله عبارة عن تركيبات للجسيمات؟ كيف يمكن فهم وتفسير انتقال المعلومات بسرعة تفوق سرعة الضوء مع أن هذا الأمر مستحيل ضمن النظرية النسبية؟

والأعجب من هذا وذاك نظرية الأكوان المتوازية والتي في كل وقت بلانك ينقسم الكون إلى عدد مهول منها والمشاهد هو من يحدد أحدها! ثم من هو هذا المشاهد؟ وما هي حدوده؟ وهل أنه شرط أولي أو نهائي في معادلة وجود كوننا هذا؟!

ما معنى نظرية الأغشية أو نظرية ام؟ وما معنى وجود أكثر من أربعة أبعاد في هذا الكون، أحد عشر بُعداً حتى الآن؟ وما هو الرد على ما طرحه بروفسور ستيفن هوكنج أخيراً عن أصل الكون وبدايته، وأن نظرية ام ونظرية الكم كافيتان لتفسير ظهور الكون من العدم، وأنه لا يحتاج ظهور الكون من العدم غير وجود قانون الجاذبية فقط المتوفر منذ البداية حسب نظرية كل شيء أو نظرية ام، وأن الكون ممكن أن يظهر دون حاجة لفرض وجود إله؟ وما معنى ما يقوله علماء الفيزياء بأن مجموع الطاقة الموجبة مع الطاقة السالبة في الكون المادي يساوي صفر؟ هل يكفي الجواب بأن سبب وجود الكون هو وجود قانون مجهول الأصل وفضاء بدائي مجهول الأصل وأن الكون بل الأكوان تخلق نفسها ولا زالت تخلق نفسها تلقائياً ومن ذات نفسها؟!

وهل يمكننا كعقلاء، كلما عجزنا عن الفهم الشامل لما تعطيه نظرياتنا، الاكتفاء بإلغاء السببية أو بحضر السؤال البديهي والمعقول عن السبب الذي كان ولا زال هو الدافع والمحرك للبحث العلمي طيلة آلاف السنين “لماذا”؟ وهل يكفي مثلاً تسفيه السؤال بنقل قول عالم ما فائز بجائزة نوبل أو مرشح لها وهو يصف “السؤال عن السبب” بأنه سؤال “غبي” أو “غير ضروري”؟!

كل هذه الأسئلة المهمة جداً يتطرق إليها أحمد الحسن في هذا الكتاب القيم “وهم الإلحاد” مع إنصاف نصوص دينية لا أعتقد أن أحداً فهم معناها لحد اليوم..

بين التفريط والافراط: “موس اوكام (Ockham) وموس ليشتانبرغ (Lichtenberg)”.. في الوسط العلمي والفلسفي هناك بعض الضوابط في التعامل مع النظريات والنماذج، ولا أريد أن أستقصيها ولكن ساقتصر على بعض الأمثلة التي أحتاجها، فمثلاً: إذا كان لدينا نظرية مثبتة تجريبياً ونظرياً وتفسر بشكل جيد كل ما وضعت لأجله، فنعتبرها نظرية جيدة ولا نرى داعي للبحث عن غيرها، وأما إذا أخفقت النظرية في بعض الجوانب ونجحت في أخرى ووجد سبيل لتعديلها أو الإضافة عليها فبها وإلا فينبغي البحث عن غيرها إن أمكن، ومرات يستعصى الأمر فتوضع نظرية ثانية لسد النقص وربما لا تقبل النظريتان الدمج كحال النسبية وميكانياكا الكم.

ولكن يوجد أيضاً حالات يكون عندنا نظريتان كلاهما تحاكي الواقع والتجربة وتعطيان نفس التنبؤات ولا يمكن ترجيح إحداهما على الأخرى، فيتم اختيار الأبسط منهما والأكثر أناقة. ومن أهم مكونات هذه البساطة والأناقة هو الاقتصار على فرض فقط ما كان ضرورياً، مثلاً: لو أننا افترضنا أن نموذج الأثير ونموذج النسبية متطابقين من كل حيث وجهة (وليس الأمر كذلك) فأكيد أن العلماء سيختارون نموذج النسبية لعدم الحاجة لافتراض وجود أثير (وربما قد يكون له عودة أو أنه فعلاً قد عاد ولكن بصورة أخرى: العدم الكمي). مثال آخر هو: الثابت الكوسومولوجي لاينشتاين والذي فعلاً تم التخلي عنه في مرحلة ما، وقد أعادت الضرورة إرجاعه، وهناك أمثلة أخرى يكون الحذف فيها نهائياً.

هذا الأمر هو بمثابة مبدأ منهجي في البحث الفسلفي والعلمي، وإن كان ليس مبرهناً عليه على الأقل بصورة كاملة، والمبدأ يشتهر باسم “موس اوكام” يقص كل ما هو زائد، وهو المشار إليه في الحوار الشهير المنسوب للابلاس مع نابوليون:

«نابوليون: سيد لابلاس، لا اجد في نظامك ذكرا لله!

لابلاس: سيدي، لم احتج لهذه الفرضية.

فاسف علماء آخرون لكون لابلاس كان يقتصد في استعمال فرضية تستطيع ان تفسر كل شئ!

لابلاس يجيب هذه المرة: نعم سيدي، هذه الفرضية تفسر كل شئ، ولكنها لا تمكن من التنبؤ. وانا كعالم يتوجب علي منحكم اعمالا تسمح لكم بعمل تنبؤات» انتهى.

وقد يصاغ هذا المبدأ بصور عديدة، وأيضاً قد يسمى بأسماء عديدة فسأسمح لنفسي أن أصيغه هكذا: “ينبغي البحث عن أبسط الحلول ولكن لا إفراط ولا تفريط”، وأما الصيغة اللاتينية المنسوبة لويليام الاوكامي (الذي عاش بين القرن الثالث عشر والرابع عشر ميلادي) فهي:

“Numquam ponenda est pluralitas sine necessitate” والتي تعني تقريباً: “لا تفترض كثرة الموجودات فوق ما هو ضروري”.

ولكن موس اوكام هو موس ذو حدين وإساءة استعماله قد تعطي نتيجة عكسية تماماً، ومن سوء استعمالاته الافراط في الامتناع عن تكميل النظرية وفرض تماميتها لجوءاً إلى تأويل على حساب البديهيات. كتاب “وهم الالحاد” يعطي ـ حسب طرح المؤلف ـ مواضع كثيرة لهكذا استعمال، مثلاً: التفسير الارتودوكسي لمكانيكا الكم بالمقارنة مع التفسير السببي الذي يفترض وجود أكوان أخرى لهذه الضرورة.. فالكاتب يبين أن التفسير ضرورة والأكوان المتعددة فرضية ليست زائدة بل وأنها مفترضة بصورة أو بأخرى في موضع آخر من النظرية لنشأة الكون (نظرية ام).

فنصل بذلك إلى أن النظرية تجيب عن السؤال “لماذا” بـ “هكذا بدون سبب”، أي أن استعمال موس اوكام بطريقة غير صحيحة يجعل منه موساً ليس له قبضة وفقط تنقصه الشفرة “موس ليشتانبرغ”.

فالكتاب “وهم الإلحاد” يعطي حلولاً لرفع التعارضات بين هذه النظريات، ثم يعطي أهم المواضع التي ربما قد أسيء فيها استعمال موس اوكام في نظريات النشأة والتطور للحياة، للكون وللثقافة الانسانية!

فتجد رجلاً واسع المعرفة بالحياة وأسلوب تطورها في أدق تفاصيلها، وتارة خبيراً بالبيلوجيا، وأخرى بالاركيولوجيا، ثم بتاريخ الإنسان وبالألواح، ثم تنسى كل هذا وتجد نفسك تارات كأنك تقرأ أروع الكتب التبسيطية من عالم كوسمولجيا، ثم تجده عالم أخلاق لا مثيل له، متفوق في كل المستويات.

ومما لا أشك فيه، أن القارئ العزيز سينتبه إلى إحدى أهم صفات الكتاب وهي الأمانة العلمية الكبيرة المتجلية في كل فصول الكتاب، حيث إن اقتباسات المؤلف كلها تامة لا بتر فيها أبداً، وهذا أمر مهم جداً ويشعرك بالثقة والارتياح ويدل على النزاهة والانصاف..

فلا يمكن إلا أن أجد نفسي معجباً بهذا الكتاب بشكل كبير… ولكن ليس لأجل هذه الأسباب فقط، بل ربما أيضاً لروعة الأسلوب، ولأجل سلاسة الربط بين ما كان يظهر مستحيلاً الربط بينه…كما لا أخفي أيضاً أن قسطاً كبيراً من إعجابي سببه الاحترام العظيم من مؤلفه للإنسان ولعقله بكل ما في الكلمة من معنى دونما تجاوز أو تكبر أو مغالطة، تراه غير مجامل فيما لا يستحق المجاملة، ومثنياً على ما يستحق الثناء، فالكتاب يدعو كل إنسان عاقل أن يبحث ولا يرضى إلا بالمعرفة.

ومع أني المفروض أن أكون مستعداً لنهاية الكتاب إلا أنه كان مفاجأة لي أن أصل لآخر صفحة وأكتشف أنّ الكتاب قد انتهى.. فكل فصل كان يمنحني فرصة الاستمرار في معرفة أكثر لأمور تطرح لأول مرة. أما في آخر صفحة فقد انقطع الأمل بانتهاء رحلتي التي تمنيت أن تستمر إلى الأبد..!

وربما أكثرت من قول “أول مرة” في تقديمي لكتاب “وهم الإلحاد”، ولكني أتوقع أن تلتمس لي العذر – أيها القارئ العزيز – بعد انتهائك منه أو ربما قبل ذلك، وأشك في أن إنساناً منصفاً قادراً أن يقاوم هذا الكتاب، وبالتالي لا يبقى له خيار على الأقل سوى الاقرار بقوة وعلمية حجته واستدلالاته..

غير إنه لا يمكنني شخصياً الجزم بالنتيجة التي ستخرج بها بعد انهائك لهذا الكتاب وهل أنك ستختار “الإلحاد والعلم” أو “الدين والعلم” أو “الخرافة” وهو شيء لا أتمناه لك على أي حال.. ولكن لن أجازف إن قلت: إن الكتاب سيعطيك قطعاًـ بالإضافة إلى الشرح البسيط وفي نفس الوقت الدقيق لأعقد النظريات الحديثة وعلاقتها بوجود إله من عدمه ـ الفرصة لوضع أهم نقاط الخلاف والتعارض بين العلم والإيمان بالإله في موضعها والتعرف على أدلة المنظرين للإلحاد والرد عليها بشكل علمي دقيق، وواضح تفتقر له بشكل كبير باقي مؤلفات فقهاء الأديان على أمل أن تصل لمعرفة وهم الالحاد وآيات التوحيد.

وأما القرار فالكاتب أحمد الحسن يتركه بيدك على أي حال..

أما للعلماء الملحدين فأقول: إن هذا الكتاب فتح فعلاً ولأول مرة باب الحوار والمناظرة على أسس علمية، وطرح تفاسير وحلولاً جديدة لا يمكن إلا اعتبارها وتقييمها ومناقشتها. كذلك فإن الكتاب اقترح نقضاً وإشكالات على أجزاء من النظريات العلمية وبالتالي فقد نقل المؤلف الاشكالات إلى الساحة العلمية، ولهذا فإن تجاهل أو عدم اعتبار المادة المطروحة في الكتاب أو عدم الرد يمكن أن يستنتج منه ـ منطقياً ـ وبكل بساطة أنه لا يوجد نقض على ما نشره المؤلف. بطبيعة الحال نفس الملاحظات والنتائج تنطبق على فقهاء الأديان.

فلا يسعني ـ وبصفتي رجلاً علمياً اكاديمياً ـ إلا أن أبدي فرحي بوجود هكذا كتاب، بغض النظر عن الحكم على ما طرح فيه، وذلك أن التحديات العلمية الكبيرة هي المحرك الاساسي للمضي قدماً بالبحث العلمي والفلسفي، وبدونها تكون النتيجة الركود بل وربما التقهقر الفكري، والتاريخ خير شاهد على ذلك.

فلنقل إن الكتاب “وهم الإلحاد” هو نشأة للحوار الحضاري، وآمل بكل قوة وشوق أن يتطور الحوار ويرتقي وفقاً لقانون الانتخاب العلمي للأقوى حجة ودليلاً: “نشأة وارتقاء الحوار بين العلم والدين”.

قراءة ممتعة.

د. توفيق مسرور(1)
____________________________

(1). دكتور توفيق مسرور ـ حاصل على شهادة الدكتوراه اختصاص رياضيات تطبيقية في المدرسة الوطنية للجسور والطرق بباريس ـ فرنسا “Ecole Nationale des Ponts et Chaussées ENPC Paris – France ” عام 1995 بدرجة “امتياز مشرفة جدا مع تهاني اللجنة” تحت اشراف عضو الاكاديمية الفرنسية البروفيسور سيارلي P.G. Ciarlet .
حصل قبلها على شهادة الماجستير في النمذجة الرياضية والتحليل العددي من جامعة بيير وماري كوري (Paris 6) عام 1992.
يعمل منذ عام 1998 في التدريس والبحث في جامعة مكناس بالمغرب بمختبر النمذجة الرياضية وبحوث الحوسبة للتحليل واتخاذ القرار (M2APD) بالمدرسة الوطنية العليا للفنون والمهن للمهندسين (ENSAM)، وعمل كذلك في جامعة روني ديدرو (Paris 7) في باريس (1995-1997) وأيضاً في جامعة فرانش كونتي (2001 – 2003) ببوزنسان (Besançon) في فرنسا.
ومجال اهتماماته في البحث العلمي هو نظرية التحكم الدقيق (Control Theory) ومراقبة النظم الموزعة من خلال التحليل الشامل والميكرو ـ محلي لخاصيات التفرد وانتشار المعلومات (Global and microlocal analysis of singularities) وتطبيقها في ميادين عديدة مثل: مراقبة وضبط الموجات الميكانيكية والكهرومغناطيسية والصوتية والموجات المنتقلة في الأوساط المرنة والسطحية (مثل موجات رايلي) والمتعددة المسارات بسبب الاقتران العمودي والعرضي والموجات في الصفائح والأعمدة المرنة والموجات في معادلة شرودنجر.