قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[المائدة: 3].

الذي اكتملَ بحسبِ هذه الآيةِ هو الدينُ، والدينُ هو الشريعةُ والعقيدةُ، والقولُ بعدمِ اكتمالِ أحدِهما يتعارضُ مع ظاهرِ الآيةِ. كما أنَّ عدمَ اكتمالِ أيٍّ منهما في واقعِ حالِ وفي أطروحةِ أيِّ طائفةٍ إسلاميةٍ يعني أنَّ هذه الطائفةَ غيرُ محقةٍ؛ لأنَّ واقعَ حالِها يخالفُ ظاهراً قرآنياً جلياً.

السلفيون أو الوهابيون والسنةُ عموماً يشرّعون بالأمسِ واليوم دونَ وجودِ نصِّ عن المعصومِ في مسائلَ كثيرةٍ؛ من المستجداتِ الحياتيةِ التي تتطلّبُ حكماً شرعياً تعبدياً، وكمثالٍ: الصلاة في المناطقِ القريبةِ من القطب، وبالتالي فواقعُ حالِهم يقولُ: إنَّ الدينَ عندهم غيرُ مكتملٍ، ولهذا اضطرُّوا للتشريعِ بالآراءِ عند فقدِ النص، كما أنهم أيضاً مختلفونَ فيما بينهم في العقيدةِ اختلافاً كبيراً، فالسلفيون أو الوهابيون مثلاً يعتقدونَ بأنَّ لله عينينِ ويدينِ وأصابعَ على الحقيقةِ، والأشاعرة كالأزهر لا يعتقدونَ بهذا، بل يعتقدونَ بفسادِ العقائدِ السلفيةِ الوهابية.

أمّا آلُ محمدٍ (صلى الله عليه وآله) فاكتمالُ الدينِ عندهُم بتنصيبِ خليفةِ الله؛ حيثُ إنّه (صلى الله عليه وآله) مَنْ يتكفّلُ بيانَ العقيدةِ الحقّةِ والتشريعِ بأمرِ اللهِ، وبالتالي لا توجدُ ثغرةٌ ولا تناقضٌ بينَ هذهِ العقيدةِ وبينَ ظاهرِ آيةِ إكمالِ الدين، فالدينُ يكتملُ بتنصيبِ الناطقِ عن اللهِ أو خليفةِ اللهِ بعدَ رسولِ اللهِ محمدٍ (صلى الله عليه وآله)، وبهذا يكونُ الدينُ عقيدةً وتشريعاً قد اكتمل، فلا توجدُ ثغرةٌ في هكذا دين يسدُّها فقهاءٌ غيرُ معصومين بآرائِهم وأهوائِهم كما هو الحالُ في الاعتقادِ السنّيِ المتعارضِ مع ظاهرِ الآيةِ.

أمّا مسألةُ غيبةِ المعصومِ فنحنُ نقولُ: إنَّ غيابَ المعصومِ هو عبارةٌ عن عمليةِ تغييبٍ لهُ نتيجة عدمِ وجودِ القابلِ لهُ ولمشروعِهِ الإلهي كما هو، لا كما يفترضهُ ويتوهّمهُ المنتظرونَ المفتَرضونَ، وبالتالي فلا تعارضَ بينَ هذهِ العقيدةِ وبينَ ظاهرِ آيةِ إكمال الدين.

نعم، التعارضُ مع آيةِ إكمالِ الدين يكونُ في ساحةِ مَنْ يعتقدونَ أنَّ المعصومَ غابَ وتركَ التشريعَ ليتبرّعَ فقهاءٌ غيرُ معصومين ويشرّعوا في دينِ اللهِ أو في المستجداتِ بآرائِهم، ثم ليزيدوا الطينَ بلّةً ويفرضوا على المؤمنينَ عقيدةَ وجوبِ تقليدِ غيرِ المعصوم والنيابةَ عن المعصوم.

والحقيقةُ، إنهُ لا سبيلَ للتوافقِ مع ظاهرِ آيةِ إكمالِ الدينِ بغير ما نقولُ ونعتقدُ من أنَّ إكمالَ الدينِ إنّما صارَ بتنصيبِ خلفاءِ اللهِ بعد رسولِ اللِه محمدٍ (صلى الله عليه وآله) والذينَ يشرّعونَ – ويوصلونَ التشريعَ من اللهِ – للناسِ، وأنَّ الإمامَ مُغيّبٌ لعدمِ وجودِ القابلِ، وأنَّ الزمانَ السابقَ لظهورِ المهديِّ الأولِ المذكورِ في وصيةِ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) هو زمانُ فترةٍ، وأنَّ الناسَ فيهِ مرجَونَ لأمرِ اللهِ وغيرُ مستحقينَ للثوابِ، وإنّما يُثابونَ برحمةِ اللهِ سبحانَه.

فالآيةُ تثبتُ بطلانَ كلِّ منهجٍ يقولُ بجوازِ خلوِّ الزمانِ من خليفةِ اللهِ (كالمنهج السنّي أو السلفي الوهابي). وأيضاً: تثبتُ بطلانَ كلِّ منهجٍ يقولُ بغيابٍ للمعصومِ دونَ تقصيرِ الأمةِ وعدمِ وجودِ القابلِ. فالآيةُ تتعارضُ مع هذه المناهجِ في الصميمِ؛ حيث إنَّ الدينَ عندهم وبحسبِ واقعِهم العملي – غيرُ مكتملٍ إلهياً بخليفةٍ إلهيٍّ منصبٍ من اللهِ أو مِن مَنْ نصّبهُ للتواصلِ مع الناسِ كالسفراءِ، وإنّما يُكملهُ فقهاءٌ غير معصومين تبرّعاً وتطفّلاً في فترةٍ ما، ليُشرّعوا بالظنِ وينتجوا أحكاماً هم يقولونَ إنها ليستْ حُكمَ اللهِ الواقعي، وبالتالي فهم أنفسُهم يُقرّونَ أنَّ الدينَ عندهم وبحسبِ أطروحتهم ناقصٌ وغيرُ مكتملٍ، وبالتالي فهم يقرّونَ من حيثُ لا يعلمونَ أنَّ أطروحتَهم العقائدية تتعارضُ مع آيةِ إكمالِ الدين.

ويجبُ الالتفاتُ إلى أمرٍ في غايةِ الأهميةِ وهو: إنَّ كلا المنهجينِ يرميانِ التقصيرَ في ساحةِ اللهِ وساحةِ خليفةِ اللهِ أو المعصوم؛ حيث يفترضانِ أنَّ اللهَ تركَ الدينَ لهم ليشرّعوا في كلِّ ما يستجدُ ويحتاجُ إلى حكمٍ شرعيٍّ، فبدلاً من أن يقرّوا هم بالتقصيرِ كونهُم رافضينَ لخليفةِ اللهِ المنصبِ (أو من ينوبُ عنهُ) يفترضونَ أنَّ اللهَ تركَ الدينَ لأشخاصٍ غيرِ معصومينَ وغيرِ منصبينَ من المعصومِ ليُشرّعَ كلٌّ منهم برأيهِ وبدونِ أيِّ نصٍ شرعيٍّ، وهذا في الحقيقةِ طعنٌ صريحٌ بحكمةِ اللهِ أضافةً إلى أنهُ كما تقدم يتعارضُ مع قولِ اللهِ سبحانه من أنهُ أكملَ الدينَ.

إذن، خلصنا في هذا المختصرِ إلى:

إنَّ هناك منهجاً يفترضُ خلوَّ الأرضِ من الحجةِ ومثالُهُ: المنهجُ السني والسلفي، وهو منهجٌ واعتقادٌ يعارضُ ظاهرَ النصِ القرآني في مواضع؛ منها: آيةُ إكمالِ الدينِ كما تبيّن.

أمّا المنهجُ الآخر فهو الذي يقرُّ بأنَّ الزمانَ لا يخلو من الحجةِ، ولكنهُ يقول بأنَّ الحجةَ يمكنُ أنْ يغيبَ مع وجودِ القابلِ دون أنْ ينصبَ وينصَّ على من يقومُ مقامَهُ بعينهِ ليقومَ هذا النائبَ بإيصالِ حكمِ اللهِ الواقعي، وبالتالي فمَن يسدُّ النقصَ في الدينِ هُمْ فقهاءٌ متبرعونَ من أنفسِهم وغيرُ منصبينَ من حجةِ اللهِ، وتعارضُ هذا المنهجِ مع آيةِ إكمالِ الدينِ واضحٌ، فبحسبِ واقعِ حالِهم أنَّ اللهُ لم يكملْ الدينَ، ولهذا فالحلُ عندهم أنْ يتبرّعَ فقهاءٌ غيرُ منصبينَ ولا منصوص عليهم بأعيانِهم لسدِّ النقصِ بأحكامِهم وفتاواهُم التي لا تمثّلَ حكمَ اللهِ الواقعي. والحقيقةُ إنّ هذا المنهجَ لا يفترقُ عن سابقِهِ كثيراً فكلاهُما يتعارضانِ مع آيةِ إكمال الدين.

أما المنهجُ الثالثُ فهو ما طرحناهُ، وهو أنَّ الزمانَ لا يخلو من الحجةِ ولا يصحُّ أن يغيبَ الحجةُ ما لمْ ينصّبْ من ينوبُ عنه، وفي حالِ غابَ ولمْ ينصبْ من ينوبُ عنه علناً فتكونُ الأمةُ ككل مقصرةً ومنحرفةً عن الحقِ وليس فيها القابلُ للمنهجِ الإلهيّ الصحيحِ، وفي هذا الحال تقامُ الحجةُ بتعيينِ الرسولِ أو النائبِ ولكن لا يُطلبُ منه الإعلانُ والتواصلُ مع الناسِ لعدمِ وجودِ القابلِ لهُ، وفي هذا الحال تكونُ الأمةُ المؤمنةُ بخلفاءِ اللهِ في زمانِ فترةٍ: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[المائدة: 19] ويكونُ حالُ أفرادِها أنهم مُرجَونَ لأمرِ الله: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[التوبة: 106].

كحالِ الأحنافِ قبلَ بعْثِ الرسولِ محمدٍ (صلى الله عليه وآله)، وحالِ الشيعةِ قبلَ بعْثِ المهديِّ الأولِ المذكورِ في وصيةِ رسولِ اللهِ محمدٍ (صلى الله عليه وآله).

في كتابِ الغيبةِ للنعماني: «حدثنا محمدُ ابنُ يعقوبَ الكليني، قال: حدثنا محمدُ ابنُ يحيى، عن أحمدَ ابنِ إدريسَ، عن محمدِ بنِ أحمدَ، عن جعفرَ بنِ القاسمِ، عن محمدِ بنِ الوليدِ الخزازِ، عن الوليدِ بنِ عقبة، عن الحارثِ بنِ زيادِ، عن شعيبِ بنِ أبي حمزةِ، قال: دخلتُ على أبي عبدِ اللهِ (عليه السلام) فقلتُ لهُ: أنتَ صاحبُ هذا الأمرِ؟ فقالَ: لا. فقلتُ: فولدُك؟ فقالَ: لا. فقلتُ: فولَدُ ولَدِك؟ فقالَ: لا. قلتُ: فولَدُ ولَدِ ولَدِك؟ قالَ: لا. قلتُ: فمنْ هو؟ قالَ: الذي يملأُها عدلاً كما مُلئتْ ظلماً وجوراً، لعلى فترةٍ من الأئمةِ يأتي كما أنَّ النبيَّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ) بُعثَ على فترةٍ من الرسل»[الغيبة – النعماني: ص192 – 193].

فالخلاصةُ: إنهُ لا يوجدُ منهجٌ ينزّهُ ساحةَ اللهِ من التقصيرِ وكذلك يتطابقُ مع آيةِ إكمال الدين ولا يتعارضُ معها غيرَ المنهجِ الذي طرحناهُ وهو: أنَّ الزمانَ لا يخلو من حجةٍ ظاهرٍ متصلٍ بالأمةِ مباشرةً أو من خلالِ سفراءَ في حالِ وجودِ مانعٍ، أو حجةٍ غائبٍ غيرِ متصلٍ بالناسِ، وفي هذا الحالِ فالزمانُ هو زمانُ فترةٍ لعدمِ وجودِ قابلٍ، والمؤمنون فيهِ مقصّرونَ وحالُهم أنّهم مُرجَونَ لأمرِ الله.

المصدر: كتاب عقائد الإسلام – السيد أحمد الحسن (ع)