ولتبسيط الأمر نضرب أمثلة:
مثال: الإنسان الأوربي يرجع إلى أصول داكنة البشرة (سوداء)، ومع هذا نجد بشرتهم اليوم بيضاء بل ومتدرجة في البياض، فمثلاً جنوب أوربا أقل بياضاً من شمالها والسبب هو أن الطبيعة انتقت الأعراق المفضلة، أما سبب انتقاء الطبيعة للبشرة البيضاء فهو يمكن أن يكون ببساطة بسبب )فيتامين(D الذي يحتاج أن تخترق أشعة الشمس الجلد ليتكون، والبشرة الداكنة تمنع أو تقلل أشعة الشمس من الاختراق، وفي أوربا التي تصل فيها أشعة الشمس أقل سيكون أصحاب البشرة الداكنة معرضين لمخاطر نقص (فيتامينD) الكبيرة والتي تهدد الحياة والتكاثر، وهكذا يكون البقاء للأصلح، وبما أن التمايز في لون البشرة (أو الصبغة) موجود حتماً فسيتم انتقاء البشرة الفاتحة التي يصلح من يملكها للبقاء في طبيعة فيها أشعة الشمس قليلة، وهكذا تحصل عملية غربلة حتمية تستمر جيلاً بعد جيل حتى تصل البشرة إلى لون مناسب للمحيط، والأمر نفسه ينطبق على حجم الأنف والطول وغيرها من الصفات.
مثال: تغير لون الفراشات من الأبيض إلى الأسود نتيجة الثورة الصناعية حيث كانت الفراشات تنتفع من اللون الأبيض ليخفيها لحاء الشجر الأبيض فلا تراها الطيور، فلما حدثت الثورة الصناعية في أوربا أصبح لحاء الشجر في بعض المناطق الصناعية أسوداً نتيجة التلوث بالفحم فأصبحت الفراشات البيضاء مكشوفة للطيور بينما الفراشات التي تحمل الطفرة التي تلونها باللون الداكن تمكنت من التخفي والبقاء، وهكذا تغير لون الفراشات وخلال فترة ليست طويلة لأن دورة حياة الفراشات قصيرة ولا تحتاج فترة طويلة من ملايين السنين، بل تكفي فترة قصيرة نسبياً لتمر منها مئات وآلاف الأجيال ويحصل التطور البايولوجي.
مثال: أطوال أعناق سلف الزرافات متمايزة فبعضها أطول من بعض نسبياً، فلو فرضنا تواجدها في بيئة فيها غذاء لذلك السلف على ارتفاع أنسب لذوات الأعناق الطويلة منه لذوات الأعناق القصيرة، فستحصل عملية انتخاب من الطبيعة للزرافات الأنسب للحياة في تلك البيئة، فتموت الزرافات ذات الرقبة القصيرة جوعاً أو لا تتمكن من التكاثر والتزاوج لقلة الغذاء أو لا تتمكن من تغذية صغارها، وهكذا تقل أعداد الزرافات ذات الرقبة القصيرة في هذه البيئة وربما تنقرض بينما تبقى ذات الرقبة الطويلة وتتكاثر بصورة جيدة، وهكذا تنمو أعداد الزرافات التي فيها صفة طول الرقبة وتورث هذه الصفات الجينية لمواليدها وتنقى الخرائط الجينية للزرافات من صفة قصر الرقبة جيلاً بعد جيل.
هذه الأمور تكاد تكون بديهية والاستدلال على صحتها الآن بواسطة الجينات تماماً كالاستدلال على دوران الأرض حول الشمس بالصور، ومع هذا ينكرها كم هائل من الناس فقط لأنهم يعتقدون بأنها تتعارض مع النص الديني!
مثال آخر: الحيوانات المفترسة، مثلاً الذئاب تتمايز كغيرها من الكائنات الحية في كل شيء فلو وجدت الذئاب في بيئة الفرائس فيها سريعة فإن الذئاب قصيرة الأقدام والبطيئة السرعة تهلك جوعاً في هذه البيئة وبالتالي فلن تورث صفاتها لجيل يخلفها، ومع الزمن ستتشكل ذئاب بالانتخاب الطبيعي ذات أقدام طويلة وسريعة في تلك البيئة. وفي بيئة ثلجية ستبقى الذئاب البيضاء فقط؛ لأن الداكنة ستراها الطرائد فلا تتمكن من صيد طعامها فتموت جوعاً، وهكذا شيئاً فشيئاً سينقى لون فراء الذئاب إلى الأبيض وحتى الفرائس ربما يحصل معها نفس الشيء فسيكون فراء الأرانب مثلاً أبيضاً لينفعها في عملية التخفي. ولعل الدببة القطبية لا تتمكن من الحصول على طعامها لولا لونها الأبيض الذي يساعدها كثيراً على التخفي فلا تراها فرائسها إلا بعد فوات الأوان، ولم تحصل على هذا اللون الأبيض بين ليلة وضحاها بل لابد أنه نتاج عملية تطور كعملية تطور فراشات الثورة الصناعية فكلاهما حصل عندما وفرت الطفرات الجينية الخيار المناسب لبقاء وتكاثر صفة وترسيخها على حساب الأخرى، ولكن الزمن الذي استغرقه الدب القطبي ليتطور عن الدب البني تقريباً هو 150 ألف سنة وهذا الزمن أكبر بكثير من الزمن الذي احتاجته فراشات الثورة الصناعية، والسبب كما بينت هو في طول وقصر دورة حياة الحيوان.
مثال آخر: الآن نحن جميعاً نقول إنه مع تقدمنا الملحوظ في العمران والتكنولوجيا والطب زادت مشاكلنا الصحية وزادت الأمراض وتعقيداتها بيننا وكلنا نردد – وربما حتى بعض الأطباء – ما السبب؟!!! بينما أحد الأسباب واضح، وبكل بساطة هو أننا بتقدمنا قد قمنا بإلغاء أحد طرفي معادلة التطور لنوعنا (الجسماني) وهو طرف الانتقاء الطبيعي.
أوضح أكثر: نأخذ أي مرض وراثي مثلاً مرض السكري، فوجود الرعاية الصحية (الطبيب + المختبر + المتخصصين + الصيدلي + الدواء… الخ) التي تطيل حياة مرضى السكري حتى يبلغوا وينجبوا ويورثوا جيناتهم لأطفالهم، وهذا يسبب تراكم أعداد الذين يحملون هذه الجينات بيننا، وبهذا فنحن بتقدمنا قمنا بإلغاء الانتقاء الطبيعي فلولا ادخالنا الرعاية الصحية في المعادلة لحصل انتقاء طبيعي ومات كثير من مرضى السكري قبل أن يبلغوا ويتمكنوا من الإنجاب، وشيئاً فشيئاً كانت ستقل الأعداد التي تحمل هذه الجينات.
أيضاً: بسبب تواجدنا في بيوت محصنة نوعاً ما أصبح كثيرون غير قادرين على مقاومة مشاكل العيش في بيئة طبيعية مثل مقاومة الجراثيم أو لسع الحشرات.
وهناك دراسة حول الابادة البايلوجية التي حصلت لسكان القارات الجديدة الأصليين بسبب جراثيم الحيوانات الأليفة التي حملها المستوطنون الجدد إلى تلك القارات، ففي حين أن الأوربيين كانوا متكيفين للعيش مع تلك الجراثيم ومقاومتها لم يتمكن سكان القارات الجديدة الأصليين من مقاومتها فتسببت بإعادة هيكلتهم وفق نظام التطور.
السيد أحمد الحسن
مؤلف كتاب وهم الإلحاد
الصفحة الرسمية في الفيسبوك