مسألة السهو والنسيان عند الإنسان عموماً، مرتبطة من جهة بالنفس الإنسانية، ومن جهة أخرى بالدماغ الذي هو آلة بايلوجية في جسم أي إنسان مكتمل.
وهذه الآلة البايلوجية لديها قدرات محدودة، مثل قدرة الدماغ على التركيز، فالدماغ له قدرة محدودة على التركيز والتذكر،
وطبيعي جداً أنْ لا يتمكن الدماغ من التركيز ومتابعة عدة أمور في آن واحد بدقة متناهية،
فالنسيان والسهو – وخصوصاً في الأفعال المركبة أو المتراكبة أو المتتالية – حالة طبيعية لا يخلو منها إنسان؛ لأنه لازمة تلازم دماغنا المادي لا يمكن التخلص منها،
ولهذا تجد كثيراً من الناس يحاولون أنْ يعصموا أنفسهم من النسيان والسهو بتسجيل ملاحظات في أوراق حول مواعيدهم والأعمال التي يجب أنْ يقوموا بها،
بل تجد من لديهم أعمال مهمة يضعون أشخاصاً آخرين لتسجيل مواعيدهم وأعمالهم ومتابعتها وتذكيرهم بها،
وتجد مصنعي بعض المعدات التي يستعملها الإنسان يضعون منبهات ضوئية أو صورية؛ لأنّ فيها أكثر من جهة تحتاج مراقبة، وهم يعلمون بالتجربة أنّ الإنسان ينسى ويسهو بمراقبة بعضها عن بعضها الآخر.
الإنسان يذهب لجلب شيء يخصه، ثم عندما يصل للمكان يجد نفسه قد نسي سبب مجيئه لهذا المكان؛ لأنه مرَّ بطريقه بأشياء شغلت دماغه عن التركيز على الأمر الأول الذي جاء بطلبه.
الإنسان يتكلم في أمر معين ثم ينتقل إلى فكرة أخرى يركز عليها قليلاً ثم يريد العودة إلى صلب الموضوع الذي كان يتحدث فيه، فيجد نفسه قد نسي عن ماذا كان يتكلم، ويطلب من الذين معه تذكيره في ماذا كان يتكلم.
أو أنه يريد التحدث في موضوع فيبادره الشخص المقابل بالحديث بموضوع آخر، فيجد نفسه قد نسي الموضوع الذي أراد طرحه.
والنسيان في كل تلك الحالات سببه أنّ قدرة الدماغ الإنساني على التركيز على عدة أمور في وقت معين محدودة، فهو ينشغل بالتركيز على موضوع معين عن الآخر،
وهذه مسألة طبيعية في الجسم الإنساني، ولا تتعلق بروحه أو بنفسه حتى يكون لارتقائه وعلو شأنه الروحي دخل فيها، فكون طبيعة الإنسان أنه ينسى ويسهو مسألة تجريبية،
الكل يراها ويستطيع أنْ يلمسها بمراقبة حاله وحال بقية الناس وهي مثبتة علمياً،
والمعصوم إنسان فالسهو حالة طبيعية تعرض له كغيره من البشر، وبالتالي فافتراض عصمته من السهو سواء مطلقاً أم في العبادة يحتاج إلى دليل قطعي، وهو آية محكمة أو رواية قطعية الصدور وقطعية الدلالة أو دليل عقلي تام، وهذه كلها مفقودة لدى القوم الذين يدّعون الاعتقاد بعصمة المعصوم من السهو والنسيان مطلقاً أو في العبادة.
وتجد إنّ متكلمي الشيعة وفقهاءهم أنفسهم لم يتفقوا على قول في مسألة نسيان وسهو المعصوم، فضلاً عن أنْ يتفق عليها متكلمو وفقهاء الإسلام جميعاً،
وإنْ شاء الله سيخرج المؤمن وطالب الحق من هذا الموضوع بحقيقة ونتيجة واضحة لا لبس فيها بالنسبة لمسألة السهو والنسيان؛ حقيقة لا تخالف محكم وصريح القرآن الذي نص على أنّ موسى ويوشع (عليه السلام) نسيا حوتهما: ﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً﴾[الكهف: 61]، أي تركا حوتهما؛ لأنهما لم يتذكراه وغفلا عنه،
وأيضاً تحفظ مقام خليفة الله كقدوة ومبلغ عن الله سبحانه، فلابد أنْ يعصم بمذكر خارجي في بعض الأمور.
المصدر: كتاب عقائد الإسلام – السيد أحمد الحسن (ع)
◄ كيف تكون الذاكرة والمعلومات عند الإنسان ؟
لابد أن نعرف كيف تكون الذاكرة والمعلومات عند الإنسان لكي نعرف ما يترتب عليها وهو النسيان أو الغفلة عما فيها أو بعضه.
فمعلومات الإنسان يأتي بعضها من هذا العالم الجسماني عن طريق البصر والسمع مثلاً، ويأتي بعضها من الملكوت الأعلى، ومثال ما يأتي من الأعلى هو الوحي للأنبياء (عليهم السلام) والرؤيا الصادقة.
وهذه المعلومات تنطبع في صفحة الإنسان أو يمكنك تسميته موضع الذاكرة أو المعلومات، وهو في النفس الإنسانية (الروح) وليس في الجسد كما يتوهم كثير من الناس أنه في الدماغ، بل الدماغ هو تماماً كجهاز الفاكس أو التلفون، فهو ليس موضع حفظ المعلومات الدائم، بل هو جهاز يوصل المعلومات من وإلى وجود الإنسان في هذا العالم الجسماني.
وهذه المعلومات ما دام الإنسان في هذا العالم فهي في زيادة مستمرة، فمثلاً ما تراه بعينك وتدركه وما تستمعه بأذنك وما تقرأه هي معلومات متراكمة في النفس الإنسانية، والتذكر هو استخراج هذه المعلومات وحضورها عند الإنسان في هذا العالم عند إرادته ذلك.
المصدر: كتاب رحلة موسى إلى مجمع البحرين – السيد أحمد الحسن (ع)
أما ما يؤثر في هذا التذكر أو تحصيل المعلومة واستخراجها من الذاكرة فهي عدة أمور؛ منها:
أولاً: كم المعلومات، وأثر كم المعلومات على التذكر بيّن من خلال الواقع الذي نعيشه، فقدرة الطفل مثلاً على الحفظ أكبر بكثير من الكبار، والحفظ ما هو إلا تذكر للمعلومة، وسبب قدرة الطفل الفائقة على التذكر هو فراغ ذاكرته من المعلومات تقريباً عند بدء التذكر عنده، وبالتالي فكم المعلومات المتراكم عنده مع مرور الوقت في البداية سيكون تحت السيطرة حيث يكون من السهل فرزه والوصول إلى المعلومة بعكس الكبير الذي تراكم عنده كم هائل من المعلومات يصعب السيطرة عليه. ولتتوضح مسألة الكم أكثر أقول: لو كان عندك شيء تبحث عنه فإن وصولك إليه سيكون أسهل لو بحثت عنه بين عشرة أشياء مما لو بحثت عنه بين مائة.
ثانياً: الكيف أو نوع المعلومات، حيث إنّ المعلومة البسيطة ليست كالمعلومة المركبة والمعقدة، فالأخيرة ربما توضع في الذاكرة بصورة غير منظمة وعشوائية نتيجة عدم الإدراك الكلي والتام لها، وبالتالي يصعب تذكرها أو إخراجها بصورة صحيحة أو بكل جزئياتها ولوازمها بل حتى مع إدراكها ووضعها بشكل منظم ودقيق فإن تذكرها يكون أكثر صعوبة من المعلومة البسيطة؛ لأن تذكرها يحتاج إلى تذكر كل أجزائها.
ثالثاً: الجسد، وهو حجاب يؤثر على تذكر الإنسان ويكون بمثابة غطاء على المعلومات يزداد سماكة كلما زاد الانشغال به لجلب الملائمات له ودفع المنافيات عنه، ويخف كغطاء على المعلومات كلما غُفل عنه لحساب التركيز على المعلومة، ولكنه مهما أُغفل يبقى حجاباً وله أثر حيث إنّ هناك ما لابد منه كالأكل للقوة.
رابعاً: النور والظلمة في نفس الإنسان، فكلما زاد النور زادت القدرة على التذكر، وأيضاً كلما قل النور وزادت الظلمة قلّت القدرة على التذكر، ولهذا فيوشع (عليه السلام) النبي الطاهر (عليه السلام) ماذا نتوقع منه غير أن يتهم نفسه بالقصور والتقصير ﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ أي الظلمة.
خامساً: الدماغ باعتباره جهاز النقل إلى هذا العالم ومنه، فهو يؤثر تأثيراً كبيراً على مسألة التذكر فحركة الدم الصحيحة فيه ووصول الغذاء الملائم له مثلاً تجعله أكثر كفاءة، وحدوث خلل فيه أو مرض قد يؤدي إلى فقدان القدرة على التذكر كلياً أو جزئياً، مؤقتاً أو دائماً.
وهناك أمر أيضاً لابد من الالتفات له وهو أن تكون المعلومة مُحَصَّلَة فعلاً أي أن الإنسان قصد تحصيلها لا أنها مرت على أذنه مثلاً دون أن يستمعها، بل هو سمعها دون التفات منه إليها، كما لو أنه مر بمكان ورآه ولكنه لم يهتم لإدراك تفاصيل ما يرى، فهذه غير واقعة ضمن مسألة التذكر؛ لأنها أصلاً ليست معلومات مُحَصَّلَة ليتم تذكرها أو يوصف من غفل عنها بأنه نسيها.
المصدر: كتاب رحلة موسى إلى مجمع البحرين – السيد أحمد الحسن (ع)