أصلُ الدينِ أو العقيدةِ الإلهيةِ في هذهِ الأرضِ هو الاستخلافُ، فمنذُ أنْ خلقَ اللهُ أولَ إنسانٍ أرضي، وهو آدم (عليه السلام) جعلهُ خليفتَهُ في أرضِهِ.

﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 30].
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[البقرة: 31].
﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾[البقرة: 32].
﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾[البقرة: 33].

هذا ما كانَ بينَ آدمَ (عليه السلام) والملائكةِ والجن،ِ لأنَّ الملائكةَ والجنَ غيرُ قادرين على تحصيلِ المعرفةِ التي يُحصلها آدمُ (عليه السلام) ذاتياً، فكانَ حتمياً أنْ يكونَ آدمُ هو الخليفةَ، لأنهُ القادرُ على تعريفِهِم ما يجهلون. فقد عملَ ببعضِ ما أودعَ فيهِ منْ قابليةٍ وإمكانٍ حيثُ إنَّهُ إنسانٌ، والإنسانُ هو القابلُ الأوسعُ والأعظمُ، فهو مخلوقٌ على صورةِ اللهِ، أي انهُ مفطورٌ على معرفةِ أسماءِ اللهِ، ومودعةٌ فيهِ قابليةَ إظهارِ أسماءِ اللهِ للخلقِ «اللهُ خلقَ آدمَ على صورتِهِ»[الكافي: ج1 ص134].

أما بينَ الناسِ أو بني آدمَ أنفسِهِم، فحتماً أنهم غيرُ متساوين في العملِ والإخلاص، فضلاً عن غفلةِ أكثرِهِم عنِ العملِ. فأصبحَ أيضاً مِن الحتمي أنْ يُستَخلَفَ العالمُ العارفُ باللهِ على الجاهلِ نسبةً إليه، فكانَ الخليفةُ الأولُ الحقيقي – وفي العوالمِ العلويةِ – هو محمداً (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ آلَ محمدٍ (عليهم السلام) ثُمَّ الأمثلَ فالأمثلَ من الناسِ، وأما في هذا العالمِ الجسماني فهو أعلمُ الخلقِ وأعرفُهُم باللهِ سبحانه في كلِ زمانٍ.

فهنا مُستَخلِفٌ ومُسَتخلَفٌ وعلمٌ يودعُ عندَ المُستَخلَفِ، وباعتبارِ صفاتِ الخليفةِ وحيثياتِ عَمَلِهِ أو تكليفِهِ من المستخلِفِ يمكنُ أنْ نصفَهُ وما يحمِلَهُ ونصفَ مُستخلِفَهُ، فنقولُ باعتبارِ أنهُ يتلقى أنباءَ الغيبِ فهو نبيٌ يحملُ أنباءً ويُنبِئُهُ من يوحي إليهِ بالأصلِ، وباعتبارِ أنهُ حاملُ رسالةٍ فهو رسولٌ يحملُ رسالةً من مُرسلٍ، فأصلُ الدينِ وهو الاستخلافُ يتضمّنُ أصولاً ثلاثة هيَ: المُستخلِفُ والخليفةُ والعلمُ، أو مُنْبِئٌ ونبيٌ وأنباءٌ، أو مُرسِلٌ ورسولٌ ورسالةٌ. ويمكنُ أنْ نصفَ الخليفةَ بأنهُ إمامٌ إذا كانَ لهُ مقامُ الإمامةِ.

وهذا الأصلُ (الاستخلافُ) : هو أصلُ الدينِ وعمودُهُ وركيزتُهُ. فمَنْ يَنْقُضْهُ فقد نقضَ الدينَ الإلهي ولم يُبقِ منهُ شيئاً. ولهذا أكدَ الأئمةُ (عليهم السلام) والإمامُ الصادقُ (عليه السلام) على أنَّ مَنِ اغتصبوا حقَ أميرِ المؤمنين (عليه السلام) كانوا أصحابَ الحظِ الأوفرِ في نقضِ الإسلامِ، ليس لاغتصابِهِم حقَ أميرِ المؤمنين (عليه السلام) فقط، بل لأنَّ هذا الاغتصابَ هو عبارةٌ عن نقضِ الأصلِ الذي يَرتكزُ عليهِ الدينُ الإلهي وهو الاستخلافُ، ومِنْ ثَمَّ جعلوا الناسَ ينحرفونَ عنْ هذا الأصلِ الذي هو الدينُ الإلهي من ألفِهِ إلى يائِهِ.

قالَ الإمامُ جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) :
«إنَّ الدينَ وأصلَ الدينِ هو رجلٌ وذلكَ الرجلُ هو اليقينُ وهو الإيمانُ وهو إمامُ أمتِهِ وأهلِ زمانِهِ فمَنْ عرفهُ عرفَ اللهَ ومَنْ أنكرهُ أنكرَ اللهَ ودينَهُ ومَنْ جَهِلَهُ جَهِلَ اللهَ ودينَهُ ولا يعرف الله ودينه وشرايعَهُ بغيرِ ذلكَ الإمام كذلك جرى بأنَّ معرفةَ الرجالِ دينُ اللهِ، والمعرفةُ على وجهه معرفةٌ ثابتةٌ على بصيرةٍ يعرف بها دين اللهِ ويوصل بها إلى معرفةِ اللهِ»[بصائر الدرجات ص549].

وأكدَ الرسولُ (صلى الله عليه وآله) على هذا الأمرِ في حديثِ الفرقةِ الناجيةِ المشهور في كتبِ السُّنةِ:
«تفترقُ هذهِ الأمةُ على ثلاثٍ وسبعينَ فرقةً كُلُها في النارِ إلا فرقةً واحدةً. قيلَ يا رسولَ اللهِ! ما هذهِ الفرقة؟ قال: من كانَ على ما أنا عليهِ اليومَ وأصحابي».
«تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ هِيَ ؟ قَالَ: مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»[وهذا اللفظ ذكره ابن تيمية في مجموع الفتاوى: ج24 ص171 – 172 ووصفه بالمشهور].

إذن، الرسولُ (صلى الله عليه وآله) قد حدّدَ صفةَ الفرقةِ الناجيةِ بأنها الفرقةُ التي يكونُ فيها قائدٌ منصبٌ مِنَ اللهِ، كما كانَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) ومؤمنون بهذهِ القيادةِ الإلهيةِ المُعرِّفةِ باللهِ وبأمرِ اللهِ، كما كانَ أصحابُ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله).

فالحقُ إذن كما حددَهُ ووصفَهُ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بدقةٍ، هو الفرقةُ التي فيها العلاقةُ الموافقةُ للعلاقةِ التي بينَهُ وبينَ أصحابِهِ، أي الإيمان بالاستخلافِ، فهناكَ خليفةٌ إلهي منصب من الله، وهناكَ مؤمنون بهذا الخليفةِ و بهذا الأصلِ الذي هو أصلُ الدينِ الإلهي.

وروى قريباً منهُ الشيخُ الصدوقُ رحمهُ اللهُ قالَ:
«…. قالَ رسولُ اللهِ (صلى اللهُ عليهِ والهِ) : سيأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلٌ بمثلٍ وإنهم تفرقوا على اثنين وسبعين ملةً وستفرق أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملةً تزيدُ عليهم واحدةً كلها في النارِ غير واحدةٍ. قال: قيل: يا رسولَ اللهِ وما تلك الواحدةُ ؟ قالَ هوَ: ما نحنُ عليهِ اليومَ أنا وأصحابي»[معاني الأخبار: ص323].

المصدر: كتاب عقائد الإسلام ص(5-8) – السيد أحمد الحسن (ع)