القرآن الذي بين أيدينا في هذا العالم الجسماني؛ هو ظهور وتجلي للقرآن الذي في العوالم العلوية بالألفاظ التي تناسب هذا العالم،
فالقرآن في العوالم العلوية ليس بلفظي؛ لأن الألفاظ من لوازم هذا العالم الجسماني،
وظهور القرآن في هذا العالم بقدر مُظهِره أي محمد (صلى الله عليه وآله)، وبقدر ما يسع هذا العالم الجسماني أيضاً.

ومحمد (صلى الله عليه وآله) هو خير خلق الله، فيكون المعنى الذي ظهر بصورة القرآن اللفظية التي أظهرها محمد (صلى الله عليه وآله) في العالم الجسماني، هو أعظم معنى بصورة لفظية للقرآن ممكن أن يظهر في هذا العالم الجسماني.

والتوراة والإنجيل التي نزلت على موسى وعيسى (عليهما السلام) ليست شيئاً آخر غير القرآن، بل هي أيضاً تجل وظهور للقرآن في هذا العالم الجسماني، والفرق بينها هو مقام القابل الذي أظهر القرآن في هذا العالم أي محمد وعيسى وموسى (عليهم السلام)،
فبما أن محمداً (صلى الله عليه وآله) أعظم إخلاصاً وأعلى مقاماً؛ يكون ما أظهره أعظم وأعلى شأناً وأتم وأكمل مما يظهره موسى أو عيسى،
وبهذا تكون التوراة والإنجيل عبارة عن أجزاء من القرآن، ويكون القرآن مهيمناً عليها ومحتويها، ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾[المائدة: 48].

وهذا مثال لتوضيح الأمر: افرض أن أمامك حديقة فيها أشجار متنوعة مثمرة، وأن هناك عدة آلات تصوير تريد نقل حقيقة هذه الحديقة.

وأحدها بعيدة بحيث إن صورها تظهر الحديقة والأشجار، ولكن لا يمكن أن تميز أنواع الأشجار وثمارها.

والثانية قريبة وأيضاً أكثر دقة وصورها تظهر الحديقة والأشجار ويمكن أن تميز بعض أنواع الأشجار وبعض الثمار خصوصاً الثمار الكبيرة والمتميزة.

الثالثة موجودة في قلب الحديقة وأدق الجميع، بحيث إن صورها تظهر الأشجار وثمارها بوضوح، ويمكن تمييز أي شجرة أو ثمرة في الصور، بل وتمييز حالها ونضجها.

هكذا هو الحال فمحمد (صلى الله عليه وآله) لعلو مقامه، ولأن القرآن الإلهي في قلبه وهو في قلب القرآن الإلهي، فقد أظهر أعظم حقيقة ممكن أن تظهر من القرآن في هذا العالم الجسماني.
أما عيسى وموسى (عليهما السلام) فقد أظهرا من القرآن الإلهي بقدر ما سمح لهما حال كل منهما في القرب والبعد عن القرآن الإلهي،
وكذا الأمر بالنسبة لإبراهيم (عليه السلام) ونوح وبقية الأنبياء (عليهم السلام).

فالذي أنزل قبل القرآن أيضاً قرآن، ولكنه بعض القرآن الذي أنزل على محمد (صلى الله عليه وآله)، فالتوراة والإنجيل قرآن أيضاً، ولكن القرآن الذي أنزل على محمد (صلى الله عليه وآله) أشمل وأتم وأعظم ومهيمن عليها،
ولهذا فالذين كانوا يعرفون التوراة والإنجيل أو يعرفون بعض ما فيها؛ بمجرد أن سمعوا القرآن عرفوا أنه توراة وإنجيل، بل وأعظم منهما ومصدره ومصدرهما واحد.
قال تعالى: ﴿قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً﴾[الإسراء: 107 – 109].

وقد أنزل بعض القرآن (التوراة) على موسى، وأنزل بعضه (الإنجيل) على عيسى، وأنزل كل القرآن أي بصورة أتم وأكمل على محمد؛ لأن القابل أعظم وأقدر،
أي أننا نستطيع القول إن انزال القرآن الأتم والأكمل على غير محمد (صلى الله عليه وآله) أمر غير ممكن، تماماً كمحاولة وضع متر مكعب من الماء في إناء سعته لتر واحد، ولهذا لم يكن انزال القرآن إلا في الوعاء المهيأ والقادر على استقباله،
والتوراة والإنجيل هي قرآن أو بعضه، مع أنها مختلفة في محتواها وألفاظها؛ لأنها توصل نفس الحقيقة،
وإيصال الحقيقة يمكن أن يتم بألفاظ مختلفة، بل وحتى من خلال معان مختلفة أيضاً، فالمطلوب الأهم هو هذه الحقيقة وليس اللفظ بل ولا حتى المعنى.

والحقيقة القرآنية متجلية بمحمد (صلى الله عليه وآله) قبل أن تنزل عليه لفظياً بالقرآن المقروء، بل ومتجلية حتى بأوصيائه (عليهم السلام) وإن كانت بمستوى أدنى، ولهذا فلا إشكال أن يعرف محمد (صلى الله عليه وآله) ما سيقوله جبرائيل (صلوات الله عليه) قبل أن يكمله، ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾[القيامة: 16 – 18]،
وهذا هو المعنى الحقيقي لحفظهم للقرآن والتوراة والإنجيل وكل الكتب السماوية،

وهو لا يتعارض مع عدم معرفتهم بألفاظها المكتوبة بها في هذا العالم، ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾[العنكبوت: 48]،
فرسول الله وعلي (صلوات الله عليهما) انتفعا من صحف من التوراة وصلتهما، ولم يكونا يعرفان لفظها بل ولا حتى لغتها، لأن التوراة نزلت بلغة غير العربية، وقد مرّت الروايات في هذا:

«…. فأخرجوها ودفعوها إليه فنظر إليها وقرأها وكتابها بالعبراني ثم دعا أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال دونك هذه ففيها علم الأولين وعلم الآخرين وهي ألواح موسى وقد أمرني ربي أن أدفعها إليك قال يا رسول الله لست أحسن قراءتها قال إن جبرئيل أمرني أن آمرك أن تضعها تحت رأسك ليلتك هذه فإنك تصبح وقد علمت قراءتها قال فجعلها تحت رأسه فأصبح وقد علمه الله كل شي‏ء فيها فأمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن ينسخها فنسخها في جلد شاة وهو الجفر وفيه علم الأولين والآخرين وهو عندنا والألواح وعصا موسى عندنا ونحن ورثنا النبي (صلى الله عليه وآله)» [بصائر الدرجات – الصفار: ص140].

المصدر: كتاب عقائد الإسلام – السيد أحمد الحسن (ع)