ملحمة جلجامش مليئة بالرموز، فيها رؤى مرمزة مع بيان معنى بعض رموزها، فيها كلام واحداث مرمزة فمثلا في خضم معركة دائرة بين جلجامش وانكيدو نجد كل شيء يهدأ ومباشرة يقف انكيدو قائلا لجلجامش بكل احترام:
((انك الرجل الاوحد ،
انت الذي حملتك امك ،
ولدتك امك ننسون …..
ورفع أنليل رأسك عاليا على الناس ،
وقدر اليك الملوكية على البشر)) طه باقر ـ ملحمة جلجامش
والسؤال هنا اذا كان انكيدو يعرف هذا منذ البداية فلماذا قاتله؟!!!.
اذن فمن غير المعقول ان يكون المقصود بتلك المعركة هو صراع بدني بين جلجامش وانكيدو نعم يمكن ان نقول انه صراع عقائدي ادى بأنكيدو ان يعترف في النهاية بأن جلجامش هو ابن ننسون وابن أنليل الذي أوصى أن يكون جلجامش ملكا، ونطق انكيدوا – بعد الصراع – بهذه الكلمات يبين بوضوح ان انكيدوا يقدس ننسون وأنليل ولكنه لم يكن يقر أن جلجامش من سلالتهم والان هو يقر ((انك الرجل الاوحد ، انت الذي حملتك امك، ولدتك امك ننسون ….. ورفع أنليل رأسك عاليا على الناس وقدر اليك الملوكية على البشر)) ولهذا ايضا لابد ان نحسب لرمزية النصوص حسابا ولانعتبرها نصوصا صريحة المقصود بها هو المعنى اللفظي تماما، وهذه في الحقيقة تكاد تكون طبيعة للنصوص الدينية عموما لأنها نصوص آتية من عوالم اخرى وتحوي حكمة والهدف منها بعض الاحيان ايصال رسالة الى اهلها وربما في كثير من الاحيان يُراد حمايتها من المنتحلين، بهذه الرموز التي لا يعرفها سوى اصحابها، فالرؤى مثلا هي نص ديني ولاشك، ومن منا يشك بأن الرؤى مرمزة في كثير من الاحيان؟!.
رحلة جلجامش الاولى لقتل الشيطان خمبابا وإزالة الجور والظلم والشر من الأرض:
(( فخاطب جلجامش انكيدو وقال له : يسكن في الغابة خمبابا الرهيب فلنقتله كلانا ونزيل الشر من الارض)) وقبل ان يقتل جلجامش الشيطان يرى رؤى كثيرة تبشره بنجاح مهمته الاولى :
((…ورأيت في حلمي الثاني الجبل يسقط ايضا فصدمني ومسك قدمي ثم انبثق نور وهاج طغى لمعانه وسناه على هذه الارض فإنتشلني من تحت الجبل وسقاني الماء فسر قلبي )) ملحمة جلجامش
كل ما يُأله له عند السومريين فهو اله فالدنيا اله والانا اله والجماعة اله والصالحين المقدسين الهة لهذا فيمكننا ان نبدل كلمة اله بالانبياء او الصالحين أو الدنيا أو الانا ونتدبر النص ونرى الحكمة التي يزخر بها النص:
(( وفتح جلجامش فاه وقال لانكيدو:
ياصديقي ، من الذي يستطيع ان يرقى اسباب السماء؟
والالهة (الصالحين) وحدهم هم الذين يعيشون الى الابد مع شمش،
أما ابناء البشر فأيامهم معدودات،
وكل ماعملوا هواء عبث)) ملحمة جلجامش
وفي القرآن : (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً).
وجلجامش الذي ثلثاه اله في النهاية أراد التخلص من ثلثه المظلم فذهب الى من تخلص من الظلمة وخلد مع الالهة وهو جده اوتو نبشتم – نوح، فرحلة جلجامش الى نوح لم تكن رحلة لطلب خلود جسماني كما توهم بعض قراءها بل هي رحلة لطلب خلود روحي،
بعد كل ماتقدم هل من الانصاف ان يعترض علينا شخص ان قلنا ان ملحمة جلجامش دينية بجدارة وجلجامش شخصية دينية.
السيد أحمد الحسن
٢١ ديسمبر ٢٠١٢ م