تنصيب خليفة الله في أرضه أو الرسول وكونه الأعلم وأمْرُ المكلفين بطاعته، أمرٌ حتمي في كل زمان.

[والرسل ليسوا إلا بشر مثلهم مثل غيرهم ولكنهم أخلصوا لله وسمعوا منه وأجابوا نداءه فتفضل سبحانه عليهم وجعلهم خلفاءه في أرضه وأرسلهم إلى خلقه ليعرفوهم الحق الذي وصلوا إليه وعرفوه].

فلابد من نصب خليفة في كل زمان. ويدل عليه:

أولاً: إن الغرض من الخلق هو المعرفة [“وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” [الذاريات: 56] أي يعلمون فيعبدون فيعرفون]، ولا يتحقق هذا الغرض في هذا العالم لمعظم الخلق إلا بتنصيب ناقل للعلم وظيفته تعريف الناس،
وترك فعل ما يتحقق به الغرض مع القدرة عليه فيه نقض للغرض، وهذا تناقض لا يصدر من الحكيم المطلق. فبما أن تنصيب خليفة الله المعرف بالله وبدين الله بإرادة الله يحقق الغرض من الخلق، إذن لابد من تنصيبه.

ولا يصح أن يخلو منه زمان مع وجود القابل، فلا يعرف الخلق دين الله وإرادة الله، فلا يعلمون ولا يعبدون ولا يعرفون، فينقض الغرض من الخلق. وكذا لا يصح أن يخلو منه الزمان حتى عند عدم وجود القابل؛ لأن به يقطع عذر المنكرين كما سيأتي. وهذا النصب وضرورته يقرّه – عملياً ملجأين إليه – كل من نصبوا فقهاء أو أوصياء على الدين يشرعون لهم وإن أنكروه بألسنتهم، حيث إنهم لما كفروا بالنصب الإلهي ومن ينقل لهم دين الله، نصبوا هم لأنفسهم من يشرع لهم بالظنون والأهواء في ما ليس فيه نص إلهي متوفر عندهم. وهكذا هم قد أقروا بعملهم هذا ضرورة نصب خليفة الله، وأعلنوا حاجتهم له لينقل لهم العلم الإلهي وحكم الله الحق في كل واقعة.

ثانياً: المالك العالم المطلق لابد أن يأمر المكلفين العاملين في ملكه بإنفاذ إرادته؛ لأنه الأعلم بصلاح ملكه ومن فيه ([27])، وإلا لكانوا معذورين في إنفاذ جهلهم في ملكه، وبهذا يكون قد جانب الحكمة إلى السفه، وهذا لا يصح من الحكيم المطلق.

[حتى المكلفين العاملين في ملكه سبحانه فهم أيضاً بعض ملكه، حيث إنه خالقهم ومالكهم الحقيقي فتصرفهم حتى في أنفسهم لابد أن يكون بأمره؛ لأنه يملكهم ويملك كل ما يحيطهم ملكاً حقيقياً].

وليتحقق هذا الغرض لابد له من إيصال أمره وإرادته للمكلفين ليعملوا بها، ولا سبيل إلى ذلك مع وجود المُلك وغياب المالك عند المكلفين العاملين في ملكه إلا بواسطة مَن حضر عنده المالك (أي من يوحى له ويتصل بالمالك ويعرف إرادته)،

[غيابه ليس حقيقياً بل عندهم بسبب تقصيرهم وغفلتهم عنه، وإلا فهو الشاهد الغائب وبإمكان كل إنسان أن يخلص ويتواصل مع ربه ويعرف إرادته سبحانه وتعالى وذلك بأن يطلعه الله على الغيب؛ فإما يكون خليفته في أرضه الذي يزوده سبحانه بكل شيء يحتاجه هو وبقية الخلق وبحسب ما يناسب حاله ومقامه، وإما يكون من عباد الله الذين يعرفهم الله بعض الغيب، والمفروض أنهم ينتفعون منه لمعرفة خليفة الله في أرضه ويطيعوه؛ لأنهم لا يعرفون إلا القليل ويبقون محتاجين للخليفة ليتكاملوا “عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً” الجن: 26 – 28].

[ولبيان هذا الأمر نضرب مثلاً: سفينة ومالكها، فلو أن مالك سفينة أراد لها أن تجوب البحار لأداء عمل ما، فالحكمة تقول إنه لو كان الأعلم والأحكم من الكل فلابد له أن يعيّن لها ربّان (قائد) ويختاره الأعلم من بين طاقمها ومن ثم يأمر العمال وطاقم السفينة بطاعته، ولو خالف أيٍّ من هذه الأمور الثلاثة لجانب الحكمة إلى السفه].

فلا يصح ترك نصب – خليفة الله – الواسطة مع القدرة؛ لأنه نقض للغرض الذي يريده المالك وهو تنفيذ إرادته في ملكه.

فإذا نصب المالك العالم الحكيم المطلق خليفة عنه في ملكه، متصلاً به يَعرف إرادة المالك ويمكن أن يُعرِّف غيره من المكلفين بإرادة المالك، عندها يمكن أن ينفذ مَن يريد مِن المكلفين إرادة المالك، وتقام الحجة على الغافلين ويقطع عذر المنكرين المتكبرين. وله أشار تعالى في القرآن بقوله: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾[النساء: 165].
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى﴾[طه: 134].

إذن، ترك تنصيب من يعرف إرادة المالك، مع غياب المالك عند المكلفين، ومع وجود القابل في المكلفين، أو مع أن فيه إقامة الحجة على المكلفين وقطع عذر الجاحدين،
سيكون مجانبة للحكمة ونقض للغرض، وهذا لا يصح نسبته للحكيم المطلق [حيث إنّ نقض الغرض مجانبة للحكمة، وهذا ينقض حكمته المطلقة وبالتالي ينقض لاهوته المطلق ويثبت فقره، تعالى الله عن هذا علواً كبيراً]،
وكما أنه أيضاً مجانبة للرحمة، وهذا لا يصدر من الرحيم المطلق [حيث إنّ عدم إنفاذ الرحمة مع عدم وجود مانع ووجود القابل لها – وهم من يتذكرون عند إرسال خليفة الله لهم – يثبت نقص رحمة الرحيم وعدم تماميتها، وبالتالي ينقض كون رحمته مطلقة وبالتالي ينقض لاهوته المطلق، تعالى الله عن هذا علواً كبيراً. وفي القرآن: “قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ” الأنعام: 12].

أما مسألة كون الخليفة هو الأعلم فيما انتدب إليه، فلأن تنصيب الأقل علماً مع وجود الأعلم تضييع لبعض العلم الموجود عند الأعلم أن يصل للمكلفين. وفي هذا مجانبة للحكمة، لهذا فالمالك لابد أن يزود خليفته بالعلم اللازم لأداء رسالته. وعموما فالخليفة دائماً يكون الأعلم؛ لأنه يعرف إرادة المالك دون سواه، وبميزة العلم يكون الخليفة هو الأعرف بالطريق وهو الأقدر على أداء الوظيفة وبلوغ الغاية وتحقيق الهدف وإنجاز الغرض.

وأما مسألة حتمية أمر العاملين بطاعة الخليفة – مع وجود القابل – فلأن ترك هذا الأمر فيه تعطيل للمهمة والوظيفة المطلوب من خليفة الله أداءها، وهذا لا يصدر من حكيم مطلق.

[حيث إنّ تنصيب الخليفة: يهدف إلى إقامة الحجة وقطع العذر وهذا جاري سواء كان هناك قابل أم لم يكن هناك قابل، وأيضاً يهدف إلى استنقاذ المكلفين من غفلتهم بتذكيرهم ليقبلوا إرادة الله التي تصلهم من خلال خليفته في أرضه، وهذا الأمر لا يتحقق إلا عند وجود قابل، ولهذا فعندما لا يوجد قابل لا يوجد إشكال في تخلف الجزء الأخير من القانون وهو تبليغ المكلفين بطاعة خليفة الله في أرضه سواء كان هذا التبليغ من خلال خليفة الله عندما يطالب بإقامة حاكمية الله، أم من الله ورسله مباشرة للمكلف كما في الرؤيا، أم من الخليفة السابق المباشر أو غير المباشر].

ومع عدم وجود القابل فيمكن أن يكون الخليفة أو الرسول موجوداً منصباً وقد هيأه الله بالعلم، ولكن لا يأمره الله بالتبليغ (أي مجمّد)، ووجوده والحال هذه موافق للحكمة؛ لأن فيه إقامة الحجة على الناس وقطع عذر المنكرين، ولا يكون للناس حجة مع وجود الرسول ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165]، ويكون هذا الزمان هو زمان فترة، يوجد فيه رسول وهو خليفة الله في أرضه وحجته على عباده ولكن لا يؤمر بالتبليغ (أي مجمّد)
وإن كانت الفترة طويلة كان فيها أكثر من رسول، وله أشار تعالى بقوله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾[المائدة: 19].

وبسبب عدم وجود القابل يمكن أن يكون هناك أماكن لا يرسل فيها، وأقوام لم تصلهم الرسالات السماوية ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾[الأنفال: 22 – 23].

والحجة مقامة على هؤلاء جميعاً بخليفة الله في أرضه، ولا حجة لهم على الله ولا لغيرهم مع وجود الخليفة، وإن لم يؤمر بالتبليغ لعدم وجود القابل فيهم، فالله سبحانه يعلم حال هؤلاء
وقد أرسل لأمثالهم وكان ردهم دائماً التكذيب وطلب المعجزات القاهرة التي تقهرهم على الإيمان بدليل مادي محض لا يبقي للغيب نصيباً ﴿وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾[القصص: 4847].