أما لو احتمل غير صاحب الرؤيا كذب من يقول إنه رأى الرؤيا، أو إن ما رآه حلم من الشيطان، أو من هوى النفس؛ عندها لا تكون لهذه الرؤيا حجية عليه وهنا نحتاج البحث في أمور هي:

1- احتمال كذب من قال إنه رأى:

وهذا الأمر يندفع بأنْ تكون رؤى كثيرة ومستمرة ويراها أناس متفرقون، ولا رابط ولا علاقة بينهم قبل إيمانهم بداعي الحق، ليتصور من يسمع رؤاهم أنهم تواطئوا على الكذب، عندها لا يمكن إلا لمكابر معاند اتهام هؤلاء بالكذب؛ حيث يمتنع عقلاً تواطؤهم على الكذب، وبهذا تكون رؤاهم بمجموعها حجة على الناس غيرهم، ولو كان هؤلاء الذين رأوا الرؤى من مشارب وخلفيات عقائدية مختلفة، فإن الحجة ستكون أعظم ولا سبيل لرد شهادتهم بما رأوا وسمعوا من شهادة الله عندهم ونصه على خليفته في أرضه.

2- احتمال أن تكون الرؤيا من الشيطان:

وهذا الأمر يندفع بأنْ يكون في الرؤيا خليفة لله في أرضه ثبتت خلافته للمتلقي، أو ملك من ملائكته، أو أن يكون فيها اسم من أسماء الله، أو آية من كتاب سماوي ثابت للمتلقي، أو أنْ تكون في الرؤيا رموز حكيمة لا يمكن أنْ تصدر من سفهاء كالشيطان وجنده.

وفي القرآن رد الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ﴾[الشعراء: 210 – 211] على من قالوا إنّ القرآن تنزلت به الشياطين، فالله يقول لا، ليس للشياطين سلطة وقدرة على قراءة القرآن، فما ينبغي للشيطان أنْ يدعو للصلاح كما في القرآن، وإلا فكيف تقوم للشيطان قائمة وهو يدعو للصلاح والخلق الكريم وذكر الله !

وإذا كانت هذه الأمور التي ذكرت في القرآن جاء بها الشيطان، فكيف إذن سيدعو للشر ومتى وأين، ثم هل الشيطان يحارب نفسه؟!!! ما ينبغي له أنْ يفعل هذا،

كما أنّ الشيطان لا يمكنه تلاوة كلمات الله، أو يتمثل برموز ملكوت السماوات وبخلفاء الله وملائكة الله وبأسماء الله، وإذا أمكنه فعل هذا فلم يعد الملكوت بيد الله بل أصبح بيد الشيطان، ولم يعد هناك مجال للاطمئنان إلى أي شيء يأتي من الملكوت، وبهذا يتم الطعن بكل رسالات السماء وبكل خلفاء الله بالقول إنهم توهموا وإنّ ما رأوه هو الشيطان وإنه تمثّل لهم بصورة ملاك وقرأ لهم كلاماً على أنه كلام من الله …. إلخ، ولهذا اختصر الأمر سبحانه وتعالى وقال: ﴿وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ أي لا يمكنهم قراءة القرآن فكيف تقولون إنهم تنزلوا به؟!!!

فإذا كانوا عاجزين عن إيحاء القرآن أو بعض آيات القرآن، فكيف يمكن أن يقول شخص بجهالة وهو يدّعي العلم: إن الشياطين يتمثلون برسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) في الرؤيا ؟! هل يقبل العقل أنّ الشيطان عاجز عن التنزّل بالقرآن وقراءته وهو قادر على التمثّل بمحمد (صلى الله عليه وآله)، ومحمد هو كلمة الله التامّة والقرآن الناطق؟! هذه والله قسمة ضيزى.

هل وصل الأمر إلى التقوّل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتجرؤ عليه بهذا الأمر العظيم، وأنْ يقول من يدَّعون العلم إنّ الشيطان يتمثل برسول الله (صلى الله عليه وآله) دون أنْ يكون لديهم دليل، بل فقط تقول لرد دعوة الحق ﴿مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً﴾[الكهف: 5]،

ثم هل يعتبر نفسه عاقلاً وصاحب علم من يقول إنّ الشيطان يمكنه التمثل بالأنبياء والأوصياء وبالملائكة، إذن فماذا يبقي من الدين لو أمكن الشيطان التمثل بالأرواح الطاهرة، وكيف ميَّز الأنبياء والرسل وحي الله وعلموا أنه من الله وليس من الشيطان، وأنّ الذي كان يوحي لهم ملك وليس شيطاناً؟!! كيف علم إذن محمد (صلى الله عليه وآله) أنّ الذي كلّمه جبرائيل وليس الشيطان؟!! على حسب قولهم إنّ الشيطان يمكنه التمثل بجبرائيل أيضاً لأنهم جوزوا تمثله بمحمد (صلى الله عليه وآله) وهو أعظم من جبرائيل، هل كان على الأنبياء أن يطلبوا من كل ملك يكلمهم ويوحي لهم معجزة ليعلموا أنه ملك ومن الله وليس شيطاناً، ثم عندما يكون الوحي للأنبياء بالرؤيا، كيف سيميزون أنه وحي من الله وليس شيطاناً تمثل لهم بصورة ملك؟!!! والله إنّ من يقولون بتمثل الشيطان بمحمد (صلى الله عليه وآله) وبالأوصياء وبالملائكة قد فتحوا باباً عظيماً للشيطان وجنده من الملحدين، لا يبقي من دين الله شيئاً وأمكنوا من أعناقهم لو كانوا يفقهون.

هل علم من يدّعون العلم عظم الجريمة التي أقدموا عليها؟!!! هم الآن طعنوا بكل الكتب السماوية وبمصداقية كل الأنبياء والمرسلين وبالقرآن من بائه إلى سينه؟!! فعلى من تجرأ على دين الله وعلى رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) بقوله إنّ الشيطان يتمثل بمحمد (صلى الله عليه وآله) والأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) أنْ يتوب إلى الله ويستغفر ربه، فهذه الحقائق تتبيّن للناس وهم يتعرّفون عليها يوماً بعد يوم، وينكشف لهم زيف أهل الباطل وجهلهم وتجرؤهم على الله وملكوته وعلى رسوله وعلى الأئمة (عليه السلام).

إذن، فالرؤيا التي تحتوي ذكر الله أو خلفاء الله أو ملائكة الله ليست من الشيطان حتماً، بل من الله ومن ملكوت الله ومن ملائكة الله ومن الأرواح الطاهرة.

وقد روى المسلمون أنّ الشيطان لا يتمثّل بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله)، وهذا نموذج منه:

«عن علي بن الحسـين بن علي بن فضال، عن أبيه، عن أبي الحسـن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) : أنّه قال له رجل من أهل خراسان: يا ابن رسول الله: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المنام كأنّه يقول لي: كيف أنتم إذا دفن في أرضكم بضعتي واستحفظتم وديعتي وغيب في ثراكم نجمي»؟!

فقال له الرضا (عليه السلام) : أنا المدفون في أرضكم، وأنا بضعة نبيكم، فأنا الوديعة والنجم، ألا ومن زارني وهو يعرف ما أوجب الله تبارك وتعالى من حقي وطاعتي فأنا وآبائي شفعاؤه يوم القيامة، ومن كنّا شفعاءه نجا ولو كان عليه مثل وزر الثقلين الجن والإنس. ولقد حدثني أبي، عن جدي، عن أبيه، عن آبائه أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من رآني في منامه فقد رآني؛ لأنّ الشيطان لا يتمثل في صورتي ولا في صورة أحد من أوصيائي، ولا في صورة أحد من شيعتهم. وإنّ الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءاً من النبوّة» [من لا يحضره الفقيه – الصدوق: ج2 ص584].

أما قول بعضهم بأنّ المقصود بالحديث هو فقط من رأى الرسول في الدنيا ويعرف صورته المادية، فهذا تنقضه نفس الرواية؛ حيث إنّ الإمام الرضا (عليه السلام) يعلم يقيناً أنّ الشخص الذي قصّ عليه الرؤيا لم يرَ رسول الله محمداً (صلى الله عليه وآله) ومع هذا قال له: من رأى الرسول فقد رآه فإنّ الشيطان لا يتمثل به، وهو يوجه الكلام له ويقصد بالكلام رؤياه بالتحديد.

إذن، فهذا الشرط – الذي وضعه بعضهم – بأنّ الرائي لابد أنّ يكون قد رأى الرسول في الحياة الجسمانية منقوض بهذه الرواية، وبما تقدم من الكلام قبلها، بل هو أصلاً شرط من أهوائهم وأوهامهم ولا دليل عندهم عليه إلا العناد والكبر.

[رغم أنه قول ساذج ولا يصدر من شخص لديه شيء – ولو بسيط – من العلم، ولكنه للأسف صدر ممن يدّعون العلم ومن مشايخ يظهرون في الفضائيات كما نقل لي بعض المؤمنين، ولهذا رددت عليه لكي لا يخدع الناس، وكذلك لتنكشف لهم ضحالة هؤلاء المدعين ومدى جهلهم وتخبطهم العشواء، وأيضاً لعل هؤلاء يتوبوا ويستغفروا ربهم بعد أن يتبيّن لهم الحق، وأن قولهم باطل].

فهل من المعقول أن نقبل لكل أحد أن يضع شروطاً في الأمور الدينية والعقائدية وبدون دليل شرعي عليها؟! بل والدليل قائم بالضد من الشرط الموضوع،

ثم إنهم إذا اشترطوا هذا مع الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) فكيف سيطرد هذا الشرط مع الملائكة؟! فهل أيضاً يقولون: إنّ الذي يرى الملائكة في الرؤيا لابد أنّ يكون قد رآهم في الحياة الجسمانية وإلا فهم شياطين؟!

ثم إنّ كل الأنبياء ومنهم محمد (صلى الله عليه وآله) كانت بداية رسالاتهم أن يروا ملائكة الله في الرؤيا والكشف ويكلمونهم وهي رؤيتهم الأولى لهم، فهل لو كان من يسمون أنفسهم اليوم بـــ (علماء الإسلام) موجودون في زمن الأنبياء السابقين الذين يؤمنون بهم، هل كانوا سيواجهونهم بنفس هذا الكلام، يعني هل يقولون للأنبياء: وما أدراكم ربما هذا الشيطان جاءكم وتمثل بالملائكة، أو الشيطان جاءك وأصحابك يا محمد (صلى الله عليه وآله) وتمثّل بموسى (عليه السلام) أو بعيسى (عليه السلام)، فأنت وأصحابك لم تروا موسى (عليه السلام) في الحياة الجسمانية ؟!

ثم هل يعلم علماء الضلال أنّ هذا الكلام واجه به أشباههم محمداً (صلى الله عليه وآله) والأنبياء قبله، فردّوا شهادة الله لعباده، وردوا نص الله على محمد (صلى الله عليه وآله) نبيه بالرؤيا التي يراها الناس فقالوا كقولهم اليوم: ﴿بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ﴾[الأنبياء: 5].

والحقيقة التي يجهلها هؤلاء إنّ الشيطان لا يتجرأ وليس له أنْ يري أحداً رؤيا أنه خليفة الله في أرضه، أو أنّ فلاناً هو خليفة الله في أرضه، بل أحلام الشيطان أعاذنا الله هي أحلام تحزين وأحلام سفيهة.

3- احتمال أن تكون الرؤيا من هوى النفس:

وهذا أمر يندفع بنفس ما قلته في الأمر الأول؛ لأنه في الحقيقة أيضاً كذب، حيث لا يوجد شيء اسمه أنّ شخصاً يرى رؤيا أو كشفاً من نفسه بأنه خليفة الله أو فلان من الناس خليفة الله، بل حقيقة الأمر أنّ هذا الشخص يوهم نفسه بأنه رأى، وهو في الحقيقة فقط توهم وأوهم نفسه. ولهذا قلت هوى النفس، فهو في الحقيقة كما يقولون: “كذب الكذبة وصدقها”، فهو عن عمد يوهم نفسه بما يتمنّى وبما يوافق هواه ويصدق وهمه على أنه حقيقة ([82]).

[الإنسان في يقظته ونومه بين ثلاثة أمور لا غير هي: (النور، النفس، الظلمة)، أو لنقل: (الله، النفس، الجهل)، أو لنقل: (رسل الله من ملائكة وأرواح طيبة، النفس، الشيطان وجنده)، إذن هي ثلاثة جهات؛ جهة هي نفس الإنسان، وجهة هي الخير، وجهة هي الشر، فحتى بدون أي رؤيا أو كشف أي إنسان عندما تدور في ذهنه الأفكار فهي إما خير وداعي للخير فهي من الله، وإما شر وداعي للشر فهي من الشيطان، وإما أوهام فهي من هوى النفس. فلا يوجد شيء آخر غير هذه الثلاثة، وهي نفسها تطَّرد مع الرؤيا ومع الكشف في اليقظة، فالإنسان في نومه بين هذه الثلاثة، ولهذا فمن نام ذاكراً لله وللخير وللنور يرى من الله إن شاء الله، ومن نام غافلاً عن ذكر الله ربما رأى تحزيناً من الشيطان أو كما يسمى بالعامية (كابوس)، ومن نام طالباً للجاه وللمنصب ربما أوهم نفسه بأوهام تناسب ما يطلب لإرضاء الأنا المنتفخة في داخله، وهوى نفسه أيضاً يمكن أن يكون في اليقظة أي أن يرى الإنسان كشفاً من الله أو يريه الشيطان أو يرى ويسمع من هوى نفسه.
فالنتيجة: إنّ الرؤى الصادقة هي وحي ونص من الله عند خلقه، يعرفهم به على خليفته في أرضه، وهي باعتبارها وحياً إلهياً فهي دليل مستقل إنْ تحققت فيها الشروط. وبعد آدم لابد أنْ يكون مع الخليفة نص من خليفة سابق لتوفره، فإن لم يكن حاملاً لهذا النص ستكون الرؤى المدعاة مجرد أكاذيب تواطأ عليها كذابون لتأييد مذهبهم ودينهم المنحرف المخالف للدين الحق والعقيدة الحق؛ وهي نص خلفاء الله في أرضه بعضهم على بعض، وكما يمكن معرفة أنها أكاذيب من إمكان تواطئ المدعين لها على الكذب مثلاً].

فالنتيجة: إنّ الرؤى الصادقة هي وحي ونص من الله عند خلقه، يعرفهم به على خليفته في أرضه، وهي باعتبارها وحياً إلهياً فهي دليل مستقل إنْ تحققت فيها الشروط.
وبعد آدم لابد أنْ يكون مع الخليفة نص من خليفة سابق لتوفره،

فإن لم يكن حاملاً لهذا النص ستكون الرؤى المدعاة مجرد أكاذيب تواطأ عليها كذابون لتأييد مذهبهم ودينهم المنحرف المخالف للدين الحق والعقيدة الحق؛ وهي نص خلفاء الله في أرضه بعضهم على بعض، وكما يمكن معرفة أنها أكاذيب من إمكان تواطئ المدعين لها على الكذب مثلاً.
ولا يجب الالتفات للرؤى المدعاة في نفي خلافة الله في أرضه عن شخص؛ لأن ما ثبت شرعاً هو أنها تأتي كدليل تشخيص، ولم يثبت شرعاً أنها تأتي كدليل معارضة أو نفي، ولا يجب الالتفات للرؤى في تحديد الأحكام الفقهية والعقائد إلا إنْ أقرّها خليفة الله؛ لأنّ الدين يبيّنه خليفة الله القائم به بأمر الله.

المصدر: كتاب عقائد الإسلام – السيد أحمد الحسن (ع)