العلم الواجب توفره في خليفة الله في أرضه؛ هو معرفة ما فيه نجاة الناس في الآخرة من عقائد وتشريع، فلابد أنْ يوحى إليه ليكون عنده فصل الخطاب، ويبين الاعتقاد الحق والشريعة الحقة وما يستجد من تشريع، فالعلم ليس ما كان بل ما يكون، فمعرفة خليفة الله مثلاً بكتاب الخليفة السابق أو حفظه له أو حفظه للتشريع السابق ليس هو العلم الأهم والواجب توفره في خليفة الله في أرضه؛ لأنّ هذه أمور متوفرة بين أيدي الناس ويمكن أنْ يحصلها أي إنسان آخر، فلا يكون له فضل بها بل الفضل أنْ يعلم ما لا يعلم الناس، ولا يكون هذا إلا بالوحي في آناء الليل والنهار. فالكل يحتاجونه لينجوا بينما هو لا يحتاج أحداً من الناس في زمانه، تماماً كحال آدم والملائكة فعلم آدم كانت تجهله الملائكة مع حاجتهم له (أسمائهم)، وبهذا كان له الفضل عليهم ووجب عليهم التعلم منه وطاعته.

وهذا يبيّن أن لا إشكال أن يكون الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) أميّاً لا يقرأ ولا يكتب، ولا إشكال في كونه لم يكن يعلم نصوص التوراة والإنجيل أو يحفظها، وكل من يدعي بغير هذا فهو مغالي متكلف أمراً لا دليل عليه، إنما يحمل بعضهم على هذا القول الهوى لا غير. أما ما روي من أنّ الرسول قادر على القراءة والكتابة، فهذا أيضاً لا يعدو كونه في طور إثبات القدرة وليس التطبيق، أي أنّ الرسول لم يَثبُت أنه قرأ وكتب، بل ثبت العكس وهو احتياجه لمن يقرأ ويكتب له، كوجود كُتّاب الوحي وحاجته لعلي (عليه السلام) ليكتب له الصلح.

فما ثبت في الخارج لمن كانوا يواجهون الرسول محمداً (صلى الله عليه وآله) أنه لا يقرأ ولا يكتب؛ لأنه لم يكن يمارس القراءة والكتابة، ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾[العنكبوت: 48]. ولهذا فهم نقلوا هذا الأمر كونهم لم يروه يكتب ويقرأ أمامهم، وبهذا فحتى إثبات أنّ لديه القدرة على الكتابة والقراءة لا قيمة له في نفي جواز أن يكون الرسول – أي رسول أو خليفة لله في أرضه – لا يقرأ ولا يكتب بالفعل أي أمياً. والرسول محمد (صلى الله عليه وآله) احتاج لصحف من توراة موسى نقلت له ولم يتمكن هو وعلي (عليه السلام) من قراءتها؛ لأنها بلغة أخرى غير العربية. وهذا أيضاً ينفي أمراً مهماً يدّعيه بعضهم؛ وهو أنّ الحجة يعرف كل اللغات دائماً وفي كل حال.

ويجب دائماً الالتفات إلى أننا هنا نتكلم عن خليفة الله في أرضه في هذا العالم الجسماني، ولا نتكلم عن روحه وما أودع فيها، فهو في هذا العالم يجهل الكثير كغيره من الناس، ولا يعلم إلا ما يتعلمه كسباً أو ما يشاء الله أنْ يعلمه له وحياً وفق حكمة الله الحكيم المطلق لا وفق تخرصات الناس وطلباتهم،فيمكن أنْ يعرفه الله ما لابد له منه، فيكشف له الله بعض المعارف المودعة في صفحة وجوده، والتي حجبها عنه هذا الجسد وهذا العالم وكثافته. والنتيجة أنّ علم الحجة هو ما بيّنته، وهو وحي مستمر من الله له بكل ما تحتاجه الإنسانية للنجاة ومعرفة الحق ومعرفة ما يريده الله منهم، وليس من علم الحجة الواجب في شيء المعرفة بلغات الكتب السماوية أو باللغات الأخرى أو حفظ ألفاظ الكتب السماوية. نعم، لابد أنْ يكون هو الحافظ لكل المعاني الواردة في كل الكتب السماوية وللحقائق المشيرة لها ودون أنْ يحتاج لقراءتها أو توفرها بين يديه، فالكتب السماوية كلها مودعة في صفحة المعصوم كحقائق ومعان في مرتبتي الحقيقة والمعنى، ولكل حجة كتابه ومعرفته الخاصة به وبأهل زمانه وما يحتاجونه.

وليس من علم الحجة الواجب في شيء المعرفة بالعلوم المادية حتى الضروري منها لحياة الناس كالطب، وفي حادثة استدعاء الحسن والحسين (عليهما السلام) الطبيب لعلاج أمير المؤمنين (عليه السلام) كفاية لمن يطلب الحق.

وهذه بعض الأحاديث التي تشير إلى علم خليفة الله في أرضه:

ورد في كتاب الكافي للكليني: ج1، باب أن الأئمة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم.

«مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ زُرْعَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) : إِنَّ سُلَيْمَانَ وَرِثَ دَاوُدَ وإِنَّ مُحَمَّداً وَرِثَ سُلَيْمَانَ وإِنَّا وَرِثْنَا مُحَمَّداً وإِنَّ عِنْدَنَا عِلْمَ التَّوْرَاةِ والإِنْجِيلِ والزَّبُورِ وتِبْيَانَ مَا فِي الأَلْوَاحِ قَالَ قُلْتُ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْعِلْمُ قَالَ لَيْسَ هَذَا هُوَ الْعِلْمَ إِنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَحْدُثُ يَوْماً بَعْدَ يَوْمٍ وسَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ» الكافي – الكليني :ج1 ص224 – 225.

«أحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى عَنْ شُعَيْبٍ الْحَدَّادِ عَنْ ضُرَيْسٍ الْكُنَاسِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) وعِنْدَه أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) : إِنَّ دَاوُدَ وَرِثَ عِلْمَ الأَنْبِيَاءِ وإِنَّ سُلَيْمَانَ وَرِثَ دَاوُدَ وإِنَّ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) وَرِثَ سُلَيْمَانَ وإِنَّا وَرِثْنَا مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) وإِنَّ عِنْدَنَا صُحُفَ إِبْرَاهِيمَ وأَلْوَاحَ مُوسَى فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْعِلْمُ فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ لَيْسَ هَذَا هُوَ الْعِلْمَ إِنَّمَا الْعِلْمُ مَا يَحْدُثُ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ يَوْماً بِيَوْمٍ وسَاعَةً بِسَاعَةٍ» الكافي – الكليني :ج1 ص225.

وورد في كتاب بصائر الدرجات للصفار: ص344، باب ما يلقى شيء بعد شيء يوماً بيوم وساعة بساعة مما يحدث.

«عن أيوب بن نوح عن صفوان بن يحيى عن شعيب عن ضريس عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سمعته يقول: إنما العلم ما حدث بالليل والنهار يوم بيوم وساعة بساعة».

«وعن أحمد بن محمد بن علي بن النعمان عن ابن مسكان عن ضريس قال: كنت مع أبي بصير عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال له أبو بصير: بما يعلم عالمكم جعلت فداك، قال: يا أبا محمد إن عالمنا لا يعلم الغيب ولو وكل الله عالمنا إلى نفسه كان كبعضكم، ولكن يحدث إليه ساعة بعد ساعة».

«وعن أحمد بن محمد عن الحسين سعيد عن بعض أصحابنا عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : جعلت فداك أي شيء هو العلم عندكم قال: ما يحدث بالليل والنهار والأمر بعد الأمر والشيء بعد الشيء إلى يوم القيامة».

«وعن أحمد بن محمد عن ابن سنان عن أبي بصير قال سمعته يقول: إن عندنا الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى، فقال له ضريس: أليست هي الألواح فقال: بلى، قال ضريس: إن هذا لهو العلم فقال: ليس هذا العلم إنما هذه الأثرة إن العلم ما يحدث بالليل والنهار يوم بيوم وساعة بساعة».

«وعن عبد الله بن محمد عن محمد بن الوليد أو عمن رواه عن محمد بن الوليد عن يونس بن يعقوب عن منصور بن حازم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن عندنا صحيفة فيه أرش الخدش، قال قلت: هذا هو العلم، قال: إن هذا ليس بالعلم إنما هو إثرة، إنما العلم الذي يحدث في كل يوم وليلة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعن علي بن أبي طالب (عليه السلام)».

«وعن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن شعيب الحداد عن ضريس الكناسي قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال أبو عبد الله: إن عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى، فقال له أبو بصير: إن هذا لهو العلم، فقال: ليس هذا العلم إنما هو الأثرة، قال: إنما العلم ما يحدث بالليل والنهار يوم بيوم وساعة بساعة».

«وعن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن سيف بن عميرة عن أبي الصباح قال: حدثني العلا بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنا لنعلم ما في الليل والنهار».

المصدر: كتاب عقائد الإسلام – السيد أحمد الحسن (ع)