عيسى ع في الليلة التي رفع فيها واعد حوارييه، فحضروا عنده إلا يهوذا الذي دل علماء اليهود على عيسى ع، فقد ذهب إلى المرجع الأعلى لليهود، وقايضه على تسليم عيسى ع لهم.
وكان بعد منتصف الليل أن نام الحواريون، وبقي عيسى ع، فرفعه الله، وأنزل (شبيهه الذي صلب وقتل)، فكان درعاً له وفداءً، وهذا الشبيه هو من الأوصياء من آل محمد ، صُلب وقُتل وتَحمل العذاب لأجل قضية الإمام المهدي ع.
وعيسى ع لم يصلب ولم يقتل، بل رُفع فنجاه الله من أيدي اليهود وعلمائهم الضالين المضلين (لعنهم الله)، قال تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾.
وفي الرواية في تفسير علي بن إبراهيم عن أبي جعفر ع، قال: (إنّ عيسى ع وعد أصحابه ليلة رفعه الله إليه فاجتمعوا عند المساء، وهم اثنا عشر رجلاً فأدخلهم بيتاً ثم خرج عليهم من عين في زاوية البيت وهو ينفض رأسه من الماء، فقال إنً الله رافعي إليه الساعة ومطهري من اليهود فأيكم يلقي عليه شبحي فيقتل ويصلب ويكون معي في درجتي قال شاب منهم أنا يا روح الله قال فأنت هُوَ ذا …
ثم قال ع: إنّ اليهود جاءت في طلب عيسى ع من ليلتهم … وأخذوا الشاب الذي ألقي عليه شبح عيسى ع فقتل و صلب) [تفسير القمي: ج1 ص103، بحار الأنوار: ج14 ص336 – 337، قصص الأنبياء للجزائري: ص473].
فالإمام الباقر ع يقول: (اجتمع اثنا عشر)، بينما الذين جاؤوا من الحواريين هم (أحد عشر)، فيهوذا لم يأتِ، بل ذهب إلى علماء اليهود ليُسلِّم عيسى ، وهذا من المتواترات التي لا تنكر، فالثاني عشر الذي جاء أو قل الذي نزل من السماء، هو الوصي من آل محمد ، الذي صُلِبَ وقُتِلَ، بعد أن شُبِهَ بصورة عيسى .
وكانت آخر كلمات هذا الوصي عند صلبه هي: (إيليا، إيليا لما شبقتني)، وفي إنجيل متى: «… صرخ يسوع بصوت عظيم إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي، إلهي لماذا تركتني. فقوم من الواقفين هناك لمّا سمعوا، قالوا: إنه ينادي إيليا … وأما الباقون فقالوا أترك لنرى هل يأتي إيليا يخلصه. فصرخ يسوع أيضاً بصوت عظيم وأسلم الروح.
وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل. والأرض تزلزلت والصخور تشققت …» [إنجيل متى: أصحاح /27] انتهى.
والحقيقة أن ترجمة الكلمات التي قالها هكذا: (يا علي يا علي لماذا أنزلتني)، والنصارى يترجمونها هكذا (إلهي، إلهي لماذا تركتني) كما تبين لك من النص السابق من الإنجيل.
والإنزال أو الإلقاء في الأرض من السماء قريب من الترك.
ولم يقل هذا الوصي هذه الكلمات جهلاً منه بسبب الإنزال، أو اعتراضاً على أمر الله سبحانه وتعالى، بل هي سؤال يستبطن جوابه، وجهه إلى الناس: أي افهموا واعرفوا لماذا نزلتُ ولماذا صلبتُ، ولماذا قُتلتُ، لكي لا تفشلوا في الامتحان مرة أخرى، إذا أُعيد نفس السؤال، فإذا رأيتم الرومان (أو أشباههم) يحتلون الأرض، وعلماء اليهود (أو أشباههم) يداهنونهم، فسأكون في تلك الأرض فهذه سنة الله التي تتكرر، فخذوا عبرتكم وانصروني إذا جئت ولا تشاركوا مرة أخرى في صلبي وقتلي.
كان يريد أن يقول في جواب السؤال البيَّن لكل عاقل نقي الفطرة: صُلبتُ وتحملتُ العذاب وإهانات علماء اليهود، وقُتلتُ لأجل القيامة الصغرى، قيامة الإمام المهدي ، ودولة الحق والعدل الإلهي على هذه الأرض.
وهذا الوصي عندما سأله علماء اليهود والحاكم الروماني: هل أنت مَلِك اليهود ؟ كان يجيب أنت قلت، أو هم يقولون، أو أنتم تقولون، ولم يقل نعم، جواب غريب على من يجهل الحقيقة، ولكنه الآن توضح.
فلم يقل: نعم، لأنه ليس هو مَلِك اليهود، بل عيسى ع الذي رفعه الله، وهو الشبيه الذي نزل ليُصلب ويُقتل بدلاً عن عيسى ع.
وهذا نص جوابه – بعد أن الُقِيَ عليه القبض – من الإنجيل:
«فأجاب رئيس الكهنة وقال له استحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح، قال له يسوع: أنت قلت …» [إنجيل متى: أصحاح/ 26].
«… فوقف يسوع أمام الوالي فسأله الوالي قائلاً أأنت مَلِك اليهود فقال له يسوع: أنت تقول …» [إنجيل متى: أصحاح/ 27].
«… فسأله بيلاطس أنت ملك اليهود فأجاب وقال له أنت تقول …» [إنجيل مرقس: أصحاح/ 15].
«… فقال الجميع أفأنت المسيح فقال لهم انتم تقولون إني أنا هو…» [إنجيل لوقا: أصحاح/ 22].
«…33 ثم دخل بيلاطس أيضاً إلى دار الولاية ودعا يسوع، وقال له أنت ملك اليهود. 34 أجابه يسوع أمن ذاتك تقول هذا أم آخرون قالوا لك عني. 35 أجابه بيلاطس ألعلي أنا يهودي. أمتك ورؤساء الكهنة أسلموك إلي. ماذا فعلت. 36 أجاب يسوع مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أُسَلَّم إلى اليهود. ولكن الآن ليست مملكتي من هنا. 37 فقال له بيلاطس أفأنت إذا مَلِك. أجاب يسوع أنت تقول إني ملك. لهذا قد ولدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق …» [إنجيل يوحنا: أصحاح/ 18].
وفي هذا النص الأخير بيَّنَ الوصي أنه ليس من أهل الأرض في ذلك الزمان، بل نزل إليها لإنجاز مهمة وهي فداء عيسى ع، حيث ترى أن هذا الوصي يقول: (مملكتي ليست من هذا العالم)، (ولكن الآن ليست مملكتي من هنا)، (ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق).
عن رسول الله : (قال ينزل عيسى بن مريم ع عند انفجار الصبح مابين مهرودين وهما ثوبان أصفران من الزعفران، أبيض الجسم، أصهب الرأس، أفرق الشعر، كأن رأسه يقطر دهناً، بيده حربة، يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويهلك الدجال ويقبض أموال القائم ويمشي خلفه أهل الكهف، وهو الوزير الأيمن للقائم وحاجبه ونائبه، ويبسط في المغرب والمشرق الأمن من كرامة الحجة بن الحسن ع) [غاية المرام – السيد هاشم البحراني: ج7 ص93].
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع: (… ويعود دار الملك إلى الزوراء وتصير الأمور شورى من غلب على شيء فعله، فعند ذلك خروج السفياني فيركب في الأرض تسعة أشهر يسومهم سوء العذاب فويل لمصر وويل للزوراء وويل للكوفة والويل لواسط كأني انظر إلى واسط وما فيها مخبر يخبر وعند ذلك خروج السفياني ويقل الطعام ويقحط الناس ويقل المطر فلا أرض تنبت ولا سماء تنزل، ثم يخرج المهدي الهادي المهتدي الذي يأخذ الراية من يد عيسى بن مريم …) [الملاحم والفتن – السيد بن طاووس الحسني: ص134].
وتوجد أحاديث كثيرة تدل على أنّ عيسى ع لم يصلب ولم يقتل، بل الذي صلب وقتل هو شبيه عيسى ع.
عن أبي عبد الله ع، قال: (رفع عيسى ابن مريم ع بمدرعة من صوف من غزل مريم (عليها السلام) ومن خياطة مريم، فلما انتهى إلى السماء نودي يا عيسى بن مريم ألق عنك زينة الدنيا) [بحار الأنوار: ج14 ص338].
وعن الرضا ع، قال: (ما شُبِهَ أمر أحد من أنبياء الله وحججه للناس إلا أمر عيسى بن مريم ع وحده؛ لأنه رفع من الأرض حياً وقُبض روحه بين السماء والأرض ثم رفع إلى السماء وردّ إليه روحه، وذلك قوله عز وجل: ﴿إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران: 55]) [قصص الأنبياء للجزائري: ص474، نقلاً عن عيون الأخبار].
وعن النبي ، قال: (عيسى ع لم يمت وإنه راجعٌ إليكم قبل يوم القيامة) [بحار الأنوار: ج14 ص344].
والتَفِتْ إلى أنّ عيسى نبي مرسل وقد طلب من الله سبحانه وتعالى أن يُعفى ويُصرف عنه الصلب والعذاب والقتل، والله سبحانه وتعالى لا يرد دعاء نبي مرسل، فالله استجاب له ورفعه وأُنزل الوصي الذي صُلب وقُتل بدلاً عنه، وفي الإنجيل عدة نصوص فيها دعاء عيسى بأن يُصرف عنه الصلب والقتل.
وهي: «… ثم تقدم قليلاً وخر على وجهه وكان يصلي قائلاً يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس …» [متى: 26].
«…ثم تقدم قليلاً وخر على الأرض وكان يصلي لكي تعبر عنه الساعة إن أمكن * وقال يا أبا الآب كل شيء مستطاع لك فاجز عني هذه الكأس …» [مرقس: 14].
«… وانفصل عنهم نحو رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلى * قائلاً يا أبتاه إن شئت أن تُجز عني هذه الكأس …» [لوقا: 22].
وفي التوراة/ سفر إشعيا، وفي الإنجيل أعمال الرسل/ الإصحاح الثامن هذا النص: «… مثل شاة سيق إلى الذبح، ومثل خروف صامت أمام الذي يجزره هكذا لم يفتح فاه …».
وكل الأنبياء والأوصياء المرسلين تكلموا، لم يذهب أحد منهم صامتاً إلى الذبح، بل هم أُرسلوا ليتكلموا ويُبكتوا ويعظوا الناس، وعيسى ع بالخصوص كم بَكَّتَ العلماء والناس، وكم وعظهم فلا يَصدِقُ عليه أنه ذهب إلى الذبح صامتاً.
بل هذا الذي ذهب إلى الذبح صامتاً هو الوصي: (شبيه عيسى) الذي صُلب وقُتل دون أن يتكلم، أو يطلب من الله أن يُصرف عنه العذاب والصلب والقتل، ودون أن يتكلم مع الناس. بل إذا ألحّوا عليه وسألوه بإلحاح من أنت، هل أنت المسيح، لم يكن يجيبهم إلا بكلمة، أنت قلت.
وهكذا ذهب إلى العذاب والصلب والقتل صامتاً راضياً بأمر الله، منفذاً لما أُنزل له، وهو أن يُصلب ويُقتل بدلاً من عيسى ع.
ولأنه أصلاً لم يكن وقته قد حان ليُرسل ويُبلغ الناس ويتكلم معهم، ذهب هكذا مثل شاة سيق إلى الذبح، مثل خروف صامت أمام الذي يجزره هكذا لم يفتح فاه.
أرجو أن يستفيد كل مؤمن يريد معرفة الحقيقة من هذا الموقف، فهذا الإنسان نزل إلى الأرض، وصُلب وقُتل ولا أحد يعرف، لم يطلب أن يُذكر أو أن يُعرف، نزل صامتاً، وصلب صامتاً، وقُتل صامتاً، وصعد الى ربه صامتاً، هكذا إن أردتم أن تكونوا فكونوا).

المصدر: كتاب المتشابهات ج4 س179 – السيد أحمد الحسن (ع)