المقصود بـ”المطلق” أي غير محدد بحد، فالرحمة المطلقة التي لا حدود لسعتها. والحكمة المطلقة هي التي لا نهاية لها. قال تعالى: “….عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ” [الأعراف: 156].
فرحمته وسعت كل شيء، والكافر المستحق لجهنم شيء ورحمة الله وسعته، وأما جهنم فهي مطلبه الذي كان يتوسل الخلود فيه “لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ” [الأنبياء: 13]، فما جهنم إلا الدنيا التي استعرت بهم وبأعمالهم “……فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ” [البقرة: 24]، وفي الآية “وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ”، واضح أنّ رحمته سبحانه تعرف بمن كتبت لهم وتجلت وظهرت فيهم وهم الذين وصفهم في الآية بأن رحمته مكتوبة لهم “فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ”، فهؤلاء هم الأنبياء والأوصياء الذين كتبت لهم رحمة الله وظهرت فيهم، ورحمتهم صورة رحمة الله وبرحمتهم تُعرَف رحمة الله سبحانه وتعالى.
أما تفسير الآية على أنّ الرحمة مكتوبة للمتقين معناه أنها تسعهم بالخصوص فهو شطط، لأن معناه أن صدر الآية ينقض آخرها. فصدرها يقول رحمة الله وسعت كل شيء، وآخرها يقول الرحمة مكتوبة بالخصوص للمتقين المتزكين، أي المتطهرين الذين يؤمنون بآيات الله أي يسمعون من ملكوته ويؤمنون به، والحق هو كما بينته أن رحمته سبحانه مكتوبة بمعنى تتجلى وتظهر في المتقين المتطهرين الذين يؤمنون بملكوت السماوات وبآيات الله فيها والقادمة منها ويسمعون كلمات الله، والحقيقة انه تحصيل حاصل أن تتجلى الرحمة فيهم لأن الإنسان مفطور على صورة الله، فإن أخلص تجلت فيه هذه الصورة، وكلما كان إخلاصه أعظم كان تجليها وظهورها فيه أعظم وأظهر.
المصدر: كتاب عقائد الإسلام (الهامش) – السيد أحمد الحسن (ع)
فلذلك:
◄ عقلاً النص المباشر من الله سبحانه موافق للحكمة والرحمة، فلا يتركه حكيم ورحيم مطلق
فنحن لما أثبتنا وجود الله سبحانه وتعالى، وأنه حكيم مطلق ورحيم مطلق ولا نقص في ساحته،
وأثبتنا حتمية الاستخلاف لموافقته الحكمة المطلقة والرحمة المطلقة،
ثبت تبعاً لها أنّ الموافق للحكمة والرحمة المطلقة هو النص المباشر منه على خليفته طالما كان هناك سبيل لذلك.
ولما كان طريق النص المباشر منه هو الوحي وطريق الوحي المفتوح بينه وبين كل خلقه من الناس هو الرؤيا الصادقة، ثبت أنه حتماً ينص على خليفته ويشهد له بالوحي لخلقه بالرؤيا الصادقة في النوم أو اليقظة،
وإلا فلو ترك هذا الطريق للنص لكان مخالفاً للرحمة والحكمة المطلقة؛ حيث إنه ترك طريقاً به يتحقق الهدف من الخلق وهو المعرفة، فتنتقض ألوهيته المطلقة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
المصدر: كتاب عقائد الإسلام – السيد أحمد الحسن (ع)
◄ نقلاً ثبت هذا طريق النص المباشر من الله سبحانه بصورة واضحة وقطعية
فقد بيّنه تعالى في قصة تنصيب آدم (عليه السلام)، وهو أول خليفة لله في أرضه، فبهذا الطريق افتتح النص على خليفة الله في أرضه فأوحى الله للملائكة بأن آدم خليفته ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 30].
وبيّنه أيضاً في قصة تنصيب يوسف (عليه السلام)، فأوحى الله ليوسف (عليه السلام) بأنه خليفته في أرضه ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾[يوسف: 4]. وهنا الرؤيا كانت دليلاً تشخيصياً لخليفة الله في أرضه يوسف (عليه السلام). وكلام نبي الله يعقوب (عليه السلام) واضح في أنها دليل تشخيص لخليفة الله في أرضه يوسف، ولهذا حذّر يوسف من قص الرؤيا على أخوته لكي لا تتكرر مأساة هابيل عندما يسمع أخوة يوسف الرؤيا، ويعلمون أنه تم تشخيص يوسف (عليه السلام) خليفة الله في أرضه من بينهم ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾[يوسف: 5].
وبيّنه أيضاً في قصة تنصيب موسى (عليه السلام)، فأوحى الله بالرؤيا لأم موسى – وهي من المكلفين – وشهد الله لها بأنّ موسى خليفة الله في أرضه ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾[القصص: 7].
وبيّنه أيضاً في قصة تنصيب داود، فبيّن لداود بأنه خليفته في أرضه ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾[صـ: 26].
وبيّنه أيضاً في قصة تنصيب عيسى، فأوحى الله للحواريين بأنّ عيسى (عليه السلام) خليفته ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾[المائدة: 111].
هل يوجد وضوح أكثر من هذا الذي نراه جلياً في الآية لموضوع الرؤيا في دين الله؟! أليس واضح في الآية شهادة الله للحواريين بالوحي، وطريقا الوحي هما: الرؤيا في المنام، والرؤيا في اليقظة. هل يوجد وضوح أكثر من هذا؛ إنّ الرؤيا هي طريق شهادة الله لخليفته في أرضه عند عامة العباد الذين يطلبون شهادة الله. هل يوجد وضوح أكثر من هذا؛ إنّ الرؤيا هي طريق لنص الله على خليفته في أرضه، طريق يسمعه كل من يريد استماعه من الناس دون قيد أو شرط؟!
وقد بيَّن تعالى هذا الأمر بوضوح لا لبس فيه في دعوة الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)، حيث عرض سبحانه وتعالى نفسه كشاهد لمحمد (صلى الله عليه وآله)، لكل من يطلب شهادته سبحانه فقال تعالى:
﴿وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً﴾(النساء: 79).
﴿لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً﴾(النساء: 166).
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾(الرعد: 43).
﴿قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً﴾(الإسراء: 96).
﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾(العنكبوت: 52).
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾(الفتح: 28).
وهذه الشهادة وهذا النص مرافق للخليفة منذ اليوم الأول لإعلان دعوته، بل هو مرافق له قبل إعلان دعوته.
فالله شهد لخلفائه عند المكلفين فيما مضى، ويعرض نفسه دائماً كشاهد لخلفائه عند المكلفين. فهي سنة الله إذن التي لا تتبدل ولا تتحول كما تبيّن، وكيف يمكن أن يشهد الله لخلقه بغير الوحي سواء المباشر أو بتوسط بعض خلقه من الأرواح والملائكة، وأي طريق للوحي مفتوح دائماً بين الله وكل المكلفين غير الرؤيا الصادقة من الله، أما من ينكر هذا الطريق للنص الإلهي وهو طريق الوحي بالرؤيا، فهو معلن لكفره ببعض القرآن، أو أنَّ عليه إيجاد طريق آخر يشهد به الله عند كل المكلفين. فالله يرد على من طلبوا الآيات أو المعجزات بأنه يكفيهم شهادة الله لو كانوا مؤمنين إيماناً حقيقياً بوجود الله سبحانه ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ….. قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[العنكبوت: 50، 52].
إذن، تبيّن بوضوح من الآيات أنّ الله شهد لخلفائه عند المكلفين بالوحي بالرؤيا كرؤى حواريي عيسى، ورؤى أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله). وهذه سنّة الله فمن ينكرها ويدَّعي تبدّلها وتحوّلها عليه إقامة البينة والدليل ([79])، ومن يدَّعي عدم كفاية شهادة الله بالوحي بالرؤيا الصادقة عليه أنْ يجد معنى آخر لكلمة “كفى” التي تكررت في كل الآيات السابقة:
﴿وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً﴾.
(لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً﴾.
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾.
﴿قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً﴾.
﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.
ومعنى الآيات بيّن وهو: إنّ شهادة الله بالرؤيا في النوم واليقظة لعامة الناس الذين عرض الله نفسه لهم كشاهد لوحدها كافية لتشخيص خليفة الله في أرضه.
إذن، بحسب ما تقدم فالرؤيا الصادقة والكشف الصادق التي يشهد فيها الله لخليفته في أرضه عند المكلفين نص من الله سبحانه، والإعراض عنها هو إعراض عن النص المباشر من الله سبحانه وتعالى.
المصدر: كتاب عقائد الإسلام – السيد أحمد الحسن (ع)