العقائد الإلهية لا يمكن أنْ تتغير أو تتبدل؛ لأنّ دين الله واحد نزل من واحد سبحانه. نعم، بعض المصاديق يمكن أنْ تتبدل، وبيان العقيدة وتوضيحها يمكن أنْ يكون أغزر وأعمق، والمعرفة المترتبة على العقيدة والعمل بها يمكن أنْ تكون أعظم تبعاً لوجود القابل، أما العقيدة فلا تتبدل ولا تتغير،
قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 92]،
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: 51].
﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون: 52].

فالرسل كلهم أمة واحدة ودينهم واحد وعقائدهم واحدة، فهم خير من سلّم لله سبحانه، ودينهم هو التسليم لله أو الإسلام،
﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران: 19]،
﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]،
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ [النساء: 125]،
ولتتحقق النجاة فلابد من الاقتداء بهم والتسليم لهم ولما جاءوا به من عند ربهم من عقائد، وهي الحق المبين وما سواها زخرف باطل.

فدين الرسل، والدين عند الله سبحانه هو التسليم لله، قال تعالى:

﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [البقرة: 130].
﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 131].
﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 132].

فدين إبراهيم هو الحق وما سواه سفه ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾.
ودين إبراهيم هو التسليم لله فهو الإسلام لا غير ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.

فمن سلّم لله فهو مسلم ودينه الإسلام، سواء كان قد تبع إبراهيم (عليه السلام) في زمانه أو موسى (عليه السلام) في زمانه أو عيسى (عليه السلام) زمانه،

[التسليم متعلق بالإخلاص، فكلما كان إخلاص الإنسان أعظم كان تسليمه لله كذلك، ولهذا فمن المناسب أن يسمى دين الله سبحانه وتعالى في كل زمان بالإسلام وليس غير، ولكن كانت مشيئة الله أن لا يحمل هذا الاسم إلا محمد (صلى الله عيه وآله) ليكون إشارة واضحة إلى تسليمه الأعظم من كل الخلق].

قال تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 83 – 85].

أما رجوع الدين أو أصوله العقائدية إلى التسليم؛ فلأننا نقول إنّ هناك خالقاً مطلقاً خلق خلقاً محدودين، ثم أرسلهم في الظلمة، ثم دعاهم إليه إلى النور، فمن سلّم لخالقه وأجاب ورجع إلى النور نجا، ومن تمرّد فقد هلك حيث هو في الظلام، ولكن ولرحمته سبحانه أرسل من الناجين من يدعون الهالكين في الظلام إلى النور قبل انقضاء الوقت ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ﴾.

﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: 21].
﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [يونس: 19].
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾ [هود: 110].
﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾ [طه: 129].
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾ [فصلت: 45].
﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾ [الشورى: 14].

فمن سلَّم للناجين ولمن أرسلهم نجا، ومن تمرّد عليهم هلك، هذه هي قصة الخلق كاملة لمن يعيها. وهذا هو الذي حصل في عالم الذر، وذكر في القرآن

[“وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين” الأعراف: 172].

وفي روايات آل محمد (عليهم السلام)،

[عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: “إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيْثُ خَلَقَ الْخَلْقَ خَلَقَ مَاءً عَذْباً وَمَاءً مَالِحاً أُجَاجاً فَامْتَزَجَ الْمَاءَانِ فَأَخَذَ طِيناً مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ فَعَرَكَهُ عَرْكاً شَدِيداً فَقَالَ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ وَهُمْ كَالذَّرِّ يَدِبُّونَ إِلَى الْجَنَّةِ بِسَلَامٍ وَقَالَ لِأَصْحَابِ الشِّمَالِ إِلَى النَّارِ وَلَا أُبَالِي ثُمَّ قَالَ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ثُمَّ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى النَّبِيِّينَ فَقَالَ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ وَأَنَّ هَذَا مُحَمَّدٌ رَسُولِي وَأَنَّ هَذَا عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا بَلَى فَثَبَتَتْ لَهُمُ النُّبُوَّةُ وَأَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُولِي الْعَزْمِ أَنَّنِي رَبُّكُمْ وَمُحَمَّدٌ رَسُولِي وَعَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْصِيَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ وُلَاةُ أَمْرِي وَخُزَّانُ عِلْمِي وَأَنَّ الْمَهْدِيَّ أَنْتَصِرُ بِهِ لِدِينِي وَأُظْهِرُ بِهِ دَوْلَتِي وَأَنْتَقِمُ بِهِ مِنْ أَعْدَائِي وَأُعْبَدُ بِهِ طَوْعاً وَكَرْهاً قَالُوا أَقْرَرْنَا يَا رَبِّ وَشَهِدْنَا وَلَمْ يَجْحَدْ آدَمُ وَلَمْ يُقِرَّ فَثَبَتَتِ الْعَزِيمَةُ لِهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةِ فِي الْمَهْدِيِّ وَلَمْ يَكُنْ لآِدَمَ عَزْمٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَ جَلَّ وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً قَالَ إِنَّمَا هُوَ فَتَرَكَ ثُمَّ أَمَرَ نَاراً فَأُجِّجَتْ فَقَالَ لِأَصْحَابِ الشِّمَالِ ادْخُلُوهَا فَهَابُوهَا وَقَالَ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ ادْخُلُوهَا فَدَخَلُوهَا فَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْداً وَسَلَاماً فَقَالَ أَصْحَابُ الشِّمَالِ يَا رَبِّ أَقِلْنَا فَقَالَ قَدْ أَقَلْتُكُمُ اذْهَبُوا فَادْخُلُوا فَهَابُوهَا فَثَمَّ ثَبَتَتِ الطَّاعَةُ وَالْوَلَايَةُ وَالْمَعْصِيَةُ” الكافي – الكليني: ج2 ص8].

فالمجيبون الأوائل – ببلى ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾ -؛ أصبحوا في مرحلة متأخرة هم الدعاة والنذر وهم الامتحان، فبهم الامتحان وبهم النجاة ﴿هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى﴾ [النجم: 56]،
وأعيد أنّ هذا فضل على الناس؛ لأنهم جميعاً لديهم المؤهل ليكونوا هم في نفس مستوى المجيبين الأوائل، فلا يأتون الآن ويقولون لماذا فضل هؤلاء علينا، ولماذا جعل هؤلاء كذا وكذا، بل الحقيقة؛ أبداً لم يفضل الله أحداً على أحد، إنما خلق الجميع وأعطاهم نفس الفطرة التي تؤهلهم ليكونوا جميعهم كأفضل مخلوق وكالمجيب الأول، ولكنهم تلكأوا ونظروا إلى أنفسهم وكل واحد منهم غفل عنه سبحانه والتفت إلى نفسه وأناه وقال أنا بقدرٍ ما، ولم يكونوا كالمجيبين الأوائل الذين قالوا (هو) وأعرضوا عن الأنا كلٌّ بقدره فكسبوا هذه المقامات العليا.

وفي الحياة الدنيا التي نعيشها هذا الأمر ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾؛ حصل ويحصل وسيحصل ويستمر إلى انتهاء هذه الحياة الدنيا، فهناك مَن خلقنا وأرسلنا في هذا العالم المادي الجسماني الظلماني، ومن ثم هو ينادينا ويدعونا دائماً، ولقد أعطانا جميعاً نفس الفطرة ونفس المؤهلات لنسمعه وننطلق إليه إلى حيث النور والطهارة، ولكن قليل من شكروا نعمته وأجابوه وقالوا (هو) وأعرضوا عن الأنا، قليل جداً هم أولئك، تماماً كالنجوم في ظلمة السماء، قليل هم أولئك الأنبياء والأوصياء والرسل (عليهم السلام)، ﴿…وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13]، وللأسف كثيرون انشغلوا عن ندائه سبحانه ولم يشكروا نعمه التي لا تحصى والمتجلية في خلقهم، فغفلوا عنه سبحانه وانشغلوا بأناهم وألهتهم هذه الحياة الدنيا،
وهنا تدخلت الرحمة الإلهية فأرسل الذين سمعوا نداءه ونجوا بإجابة دعائه ليذكروا الغافلين لعلهم يلتفتون، ولكن للأسف أيضاً قليل من أجابهم، فتفضل سبحانه بأن أرسل معهم الدواء وربما جعل إنزاله على مراحل.

المصدر: كتاب عقائد الإسلام – السيد أحمد الحسن (ع)