لابد أن نعرف أن معرفته سبحانه وتعالى بصفاته معرفة حقيقية وتامة غير ممكنة لأمرين:
الأول: إن الصفات الإلهية جميعاً بل وجامعها وهو اللاهوت – الله – ما هو إلا وجه واجهنا به هو سبحانه وتعالى بما يناسب حالنا، فاللاهوت ليس الحقيقة بل هو طريق لمعرفة الحقيقة، فالوقوف عنده واعتبار معرفته هي المعرفة الحقيقية هو تماماً كالوقوف في منتصف الطريق المؤدي إلى الهدف وادعاء الوصول إلى الهدف.
ثانياً: إن الصفات عندما تنسب له سبحانه وتعالى تكون مطلقة، فكيف يمكن لغير المطلق أن يَعرِف المطلق معرفة تامة في حين أن المعرفة التامة تعني أن العارف بالشيء محيط به، ولا يحيط بالشيء إلا من هو فوقه أو مساوٍ له على أقل تقدير، وبالتالي فادعاء إمكان معرفة الصفات الإلهية معرفة تامة تكون بمثابة ادعاء تعدد اللاهوت المطلق وبمثابة جعل العارف – وهو مخلوق – لاهوتاً مطلقاً وهذا باطل. إذن، فما يمكن أن نعرفه من الصفات هو تجلياتها في الخلق، ومن المؤكد أن أقرب تجلياتها لها هم حجج الله على خلقه وخلفاؤه في أرضه [أي أن بعثهم ضروريٌ؛ لأن المعرفة تتم بهم ومن خلالهم].
فلو أخذنا الرحمة مثلاً وأردنا أن نعرف كل ما يمكن معرفته عن الرحمة فيمكننا معرفتها من علاقة الأنبياء والأوصياء مع بقية الخلق، ولنفرضها تتراوح بين (80 – 99) بالمئة، وكل منهم (عليهم السلام) بحسبه، ولكنها أبداً لا تكون في أحدهم مئة بالمئة؛ لأن من يتصف بها حينها سيكون كمال لا نقص فيه وغنى لا فقر معه، أي أنه نور لا ظلمة فيه وهذا هو سبحانه وليس خلقه، وبالتالي تبقى معرفتنا بالرحمة مهما بلغت غير تامة وغاية ما توصلنا إليه هو معرفة العجز عن معرفة الرحمة المطلقة.
وهذا يعني باختصار أنها معرفة تعتمد على نفي النقص، أي أنها معرفة تعتمد على التنزيه أو التسبيح، ولهذا قلت وقدمت بأن التوحيد في التسبيح لا في الوصف.
[فلو فرضنا أن العدل يقابله الظلم، وفرضنا أن أحد خلفاء الله في أرضه مثلاً تجلي العدل فيه بنسبة 99 بالمئة ويبقى الواحد بالمئة هي نسبة الظلم في صفحة وجوده، وأننا تمكنا من معرفة هذا الخليفة من خلفاء الله في أرضه معرفة تامة، فنكون قد عرفنا العدل بنسبة 99 بالمئة وعرفنا الظلم المتضمن في صفحة وجوده، فالآن إذا أردنا أن نصف العدل المطلق اعتماداً على معرفتنا هذه فلا يسعنا أن نقول عن العدل المطلق غير أنه عدل لا ظلم فيه، أي أننا اعتمدنا في معرفتنا العدل المطلق على نفي الظلم عن ساحة العدل المطلق، وهذا النفي للظلم بين لنا بوضوح تام عجزنا عن معرفة العدل المطلق].
وأيضاً هي معرفة بالنسبة لعامة الخلق مرتبطة بخلفاء الله في أرضه، فبهم يعرف الله وبهم يكون التوحيد، فبرحمتهم تعرف رحمته المطلقة، وبربوبيتهم في الخلق تعرف ربوبيته المطلقة، وبلاهوتهم في الخلق يعرف لاهوته المطلق سبحانه، ومن دونهم لا معرفة ولا توحيد عند بقية الخلق.
فالتوحيد إذن مرتبط بخلفاء الله ارتباطاً وثيقاً، بل لو دققنا في الأمر لعلمنا مما تقدم أن المعرفة والتوحيد غير ممكنة لبقية الخلق لولا المخلوق الأول أو العقل الأول أو محمد (صلى الله عليه وآله) الذي عَرَّف الخلق به سبحانه وتعالى.
المصدر: كتاب التوحيد – السيد أحمد الحسن (ع)
◄ ما معنى ما روي عن الباقر (ع): (لو شئت لنشرت التوحيد من الصمد) ؟
الصمد هو المقصود بالحوائج، وهو الممتلئ بالكمال فلا ثغرة فيه،
وإذا مرض الإنسان العاقل فمن يقصد غير الله المشافي،
وإذا جاع أو عطش أو افتقر فمن يقصد غير الغني،
وإذا جهل فمن يقصد غير العليم،
وإذا غضب فمن يقصد غير الحليم،
وإذا وإذا …
وإذا أراد سدّ نقصه من كل جهة فمن يقصد غير مصدر الكمال الذي لا ينقصه كثرة العطاء إلا كرماً وجوداً،
فمن الصمد سبحانه يعرف العبد القاصد السير إلى الله سبحانه وتعالى.
إنّ الله هو الحليم والكريم والرؤوف والغفار والقادر والقهار والجبار والغني والعليم والحكيم وكل أسماء الله سبحانه وتعالى التي شاء أن يطلع عليها خلقه،
فهو سبحانه وتعالى الصمد أي المقصود بكل هذه الأسماء والصفات.
المصدر: كتاب المتشابهات ج2 س38 – السيد أحمد الحسن (ع)
◄ الصمد بيان للكمال المطلق بتسبيحه وتنزيهه سبحانه
الصمد: أي الكامل الذي ليس فيه نقص أو ثغرة أو عيب، أي إننا في مقام تنزيه وتسبيح ألوهيته المطلقة وبيان كمالها المطلق،
وبالتالي فهو سبحانه المقصود من الخلق لسد النقص في صفحات وجودهم الجسمانية والملكوتية والنورية الكلية في السماء السابعة أو العقلية لمن كان له حظ فيها وكان من المقربين.
فهذا الوصف للذات الإلهية أي الصمد بيان للكمال الإلهي المطلق من خلال تنزيهه سبحانه عن النقص، وأيضاً بيان للنقص الموجود في الخلق الذي يجعلهم يقصدونه سبحانه وتعالى ليفيض عليهم من فضله.
وهذا الوصف أي الصمد جاء بعد الأحد أي بعد أن بين طريق معرفة الحقيقة والكنه من خلال أحدية الذات وفناء الأسماء فيها ثم فنائها، والذي أشارت إليه ﴿هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، فالآن بيان وتفصيل وتوضيح أن جميع الأسماء الإلهية والصفات الكمالية مطلقة منزهة عن النقص ومنطوية في الذات ويدل عليها اسم الله، فوصفه بأنه صمد أي لا جوف فيه أي لا نقص ولا ثغرة في ساحته، بل هو كامل من كل الجهات وحاوي لكل صفات الكمال، ثم شمول هذا الوصف أي الصمد لمعنى السيد الكريم الذي يقصد لقضاء الحوائج للدلالة على أنه سبحانه وتعالى بكماله المطلق المنزه المسبح يقصده الخلق لسد نقائصهم، ولقضاء حاجاتهم للدنيا والآخرة.
وهذه الآية أي الله الصمد جاءت في مرتبة تنَّـزليّة مع المتلقي، فسورة التوحيد تبدأ من القمة ثم تتنـزل مع المتلقي في التوضيح حتى تنتهي إلى المقارنة مع الخلق ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾،
فمن الحقيقة والكنه وفناء الذات الإلهية ﴿قُلْ هُوَ﴾
إلى أحدية الذات وفناء الأسماء فيها ﴿اللَّهُ أَحَدٌ﴾
إلى وصف الذات الإلهية بأنها الكامل المطلق الذي لا نقص فيه المقصود لقضاء الحوائج ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾.
(الله الصمد): الصمد وكما بينت الكامل المقصود لقضاء الحوائج وسد النقص، فالصمد بيان للكمال المطلق بتسبيحه وتنزيهه سبحانه،
فإذا كانت الأسماء والصفات الإلهية تمثل جهات الكمال الإلهية المقصودة، وكل صفة أو إسم بحسبه تمثل جهة من جهات الكمال تقصد من الخلق ومنها يفاض على الخلق، تبين أن جميع الأسماء والصفات منطوية تحت هذه الصفة أو الاسم أي الصمد
المصدر: كتاب التوحيد – السيد أحمد الحسن (ع)
◄ الاتصاف بصفة الألوهية (عموماً) غير منحصر به سبحانه وتعالى
لما كان الله هو الكامل الذي يؤله إليه في سد النقص وكسب الكمال، أصبح الاتصاف بصفة الألوهية عموماً غير منحصر به سبحانه وتعالى عما يشركون،
بلى الألوهية المطلقة منحصرة به سبحانه وتعالى، فكلمة لا اله إلا الله كلمة التوحيد لأننا أردنا بها الألوهية المطلقة،
فصفة الألوهية عموماً تشمل الكامل من خلقه الذي يأله اليه غيره ليفيض عليه الكمال ويسد نقصه، فأصبح محمد (ص) وهو صورة الله سبحانه وتعالى ووجه الله سبحانه تعالى هو الله في الخلق،
ولكن الفرق بين اتصاف محمد (ص) بصفة الألوهية وبين ألوهيته سبحانه وتعالى
أن اتصاف محمد (ص) بصفة الألوهية مقيد بالنقص والاحتياج إليه سبحانه وتعالى،
وألوهيته سبحانه وتعالى ألوهية مطلقة
ولهذا جاء هذا الوصف الصمد أي الذي لا ثغرة فيه ولا نقص فيه لتسبيحه وتنزيهه، ولبيان أن ألوهيته سبحانه وتعالى منزهة مسبحة لا ثغرة فيها ولا نقص فيها.
ومن هنا فإن وصف الصمد المضاف إلى الألوهية لا يمكن أن يطلق إلا عليه سبحانه وتعالى، وفيه تمييز لألوهيته سبحانه وتعالى وبيان أنها ألوهية تامة مطلقة، ولهذا جاءت هذه الآية في سورة التوحيد ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾
والله الصمد نظير أن تقول أن الله نور لا ظلمة فيه، وهي صفة لا يشاركه فيها المخلوقون وليست كالسميع والبصير والخالق، فهذه الصفات يشاركه بها المخلوقون،
فأنت تستطيع أن تقول أن محمداً (ص) نور ولكن فيه ظلمة وهي الأنا والشخصية ولولاها لما بقي لمحمد اسم ولا رسم ولم يبقَ إلا الله الواحد القهار سبحانه وتعالى.
فمحمد (ص) وإن كان في أعلى درجات الكمال الممكنة للخلق، ومحمد (ص) وإن كان صورة الله ويحمل صفة اللاهوت للخلق ليُعرِّف الخلق بالله سبحانه، وبالتالي فالخلق يألهون إليه ليكملهم ويسد نقصهم،
ولكن محمداً (ص) من جهة أخرى مفتقر إليه سبحانه وتعالى فهو عبد من عباد الله ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾[النور: 35]) يكاد يضيء من نفسه لا أنه يضيء من نفسه،
حتى أن إبراهيم (ع) وهو من أولي العزم من الرسل لما رأى ملكوت السماوات ظن أن اتصاف محمد (ص) بصفة الألوهية هي ألوهية مطلقة، وظن أن ربوبية محمد (ص) هي ربوبية مطلقة
ثم منَّ الله سبحانه وتعالى على إبراهيم (ع) وكشف له أفول محمد (ص) وعودته إلى الأنا والشخصية، فعلم إبراهيم أن الله سبحانه وتعالى لا يرى في ملكوت كما كان يعلم أنه لا يبصر في ملك وإنما رؤية محمد (ص) هي رؤية الله، ومواجهة محمد (ص) هي مواجهة الله سبحانه وتعالى عما يشركون، وقد بين أهل البيت شيئاً من هذا المعنى في طيات كلامهم.
قال الصادق (ع) في قوله تعالى: ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾[الزمر: 69]، قال (ع): (رب الأرض إمام الأرض، قيل: فإذا خرج يكون ماذا ؟ قال: يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر بنوره ويجتزؤون بنور الإمام (ع)) [مستدرك سفينة البحار: ج4 ص47]
مع أن رب الأرض هو الله سبحانه وتعالى ولكن ربوبيته سبحانه وتعالى ربوبية مطلقة وربوبية الإمام المهدي (ع) مقيدة بالفقر والاحتياج إليه سبحانه وتعالى.
المصدر: كتاب التوحيد – السيد أحمد الحسن (ع)
◄ التوحيد الحقيقي يكون بتنزيهه سبحانه عن المعرفة بكنهه وحقيقته
التوحيد مما مضى تبين أنه في التسبيح لا في الوصف، أي أنّ التوحيد الحقيقي يكون بتنـزيهه سبحانه عن المعرفة بكنهه وحقيقته،
وإنما تكون غاية معرفته هي في معرفة العجز عن المعرفة، فغاية ما يصل إليه الإنسان من الوصف أو الأسماء الذاتية الكمالية هو الوصول إلى هذه المعرفة – أي معرفة العجز عن المعرفة – التي يتجلّى للإنسان من خلالها بوضوح أنّ التوحيد الحقـيقي في التسبيح، قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾[الصافات: 159 – 160]،
وذلك لأنّ المخلصين يعرفون أن الصفات ترجع في حقيقتها إلى التنـزيه عن النقص أو التسبيح والتقديس، أي أنّ ساحته سبحانه وتعالى خالية من النقص، أي أنه سبحانه وتعالى نور لا ظلمة فيه.
فعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إن الله علم لا جهل فيه، حياة لا موت فيه، نور لا ظلمة فيه»[التوحيد – الصدوق: ص137].
وعن يونس بن عبد الرحمن، قال: قلت لأبى الحسن الرضا (عليه السلام) : «روينا أن الله علم لا جهل فيه، حياة لا موت فيه، نور لا ظلمة فيه، قال (عليه السلام) : كذلك هو»([التوحيد – الصدوق: ص138].
والحقيقة، إنّ معرفة عجزنا عن معرفة اللاهوت هي الممكنة لنا، ومنها نعرف عجزنا عن معرفة الحقيقة؛
لأننا لا يمكن أنْ نعرف عجزنا عن معرفة حقيقته سبحانه إلا من خلال معرفتنا لعجزنا عن معرفة اللاهوت المطلق؛ لأنّ اللاهوت المطلق هو المواجه لنا وهو يناسب حالنا
ويمكن أنْ نبحر في ساحة معرفته من خلال نقصنا الذي نعرفه [ قال الصادق (عليه السلام) : “العبودية جوهر كنهها الربوبية” مصباح الشريعة ص7]؛ لأنّ اللاهوت المطلق هو الكمال المطلق الذي نأله إليه ليسد نقصنا،
ولكن هل يمكن مثلاً معرفة العجز عن معرفة الرحمة المطلقة دون أن نعرف رحمة ما؟ أكيد أن الجواب سيكون: لا.
وبالتالي فلكي نعرف عجزنا عن معرفة الرحمة المطلقة أو (الرحمن الرحيم سبحانه) لابد أن نعرف رحمة ما،
وكلما كانت هذه الرحمة التي عرفناها أعظم وكلما كانت معرفتنا بها أعظم كانت النتيجة هي إن معرفة عجزنا عن معرفة الرحمة المطلقة أعظم، وبالتالي ستكون معرفة عجزنا عن معرفة الحقيقة التي واجهتنا بالرحمة المطلقة أعظم،
فمعرفة الرحمة المطلقة تكون بمعرفة تجليها في الخلق، ومعرفة اللاهوت المطلق تكون بمعرفة تجليه في الخلق، كما أن معرفة الحقيقة تكون بمعرفة اللاهوت المطلق.
إذن، فلابد لنا من معرفة خلفاء الله في أرضه؛ لأنهم تجلي الله في الخلق، وبمعرفتهم يعرف الله أي يعرف العجز عن معرفته، وبالتالي يعرف العجز عن معرفة الحقيقة وهذا هو التوحيد المطلوب من ابن آدم، وهذا هو سر وعلة بعث الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) الحقيقية أي أن بعثهم ضروريٌ؛ لأن المعرفة تتم بهم ومن خلالهم.
المصد: كتاب التوحيد – السيد أحمد الحسن (ع)