قال الشيخ المفيد رحمه الله:
«ولسنا ننكر بأن يغلب النوم الأنبياء (عليهم السلام) في أوقات الصلوات حتى تخرج، فيقضوها بعد ذلك، وليس عليهم في ذلك عيب ولا نقص، لأنه ليس ينفك بشر من غلبة النوم، ولأن النائم لا عيب عليه وليس كذلك السهو، لأنه نقص عن الكمال في الإنسان، وهو عيب يختص به من اعتراه. وقد يكون من فعل الساهي تارة، كما يكون من فعل غيره، والنوم لا يكون إلا من فعل الله تعالى، وليس من مقدور العباد على حال، ولو كان من مقدورهم لم يتعلق به نقص وعيب لصاحبه لعمومه جميع البشر، وليس كذلك السهو، لأنه يمكن التحرز منه. ولأنا وجدنا الحكماء يجتنبون أن يودعوا أموالهم وأسرارهم ذوى السهو والنسيان، ولا يمتنعون من إيداع ذلك من يغلبه النوم أحيانا، كما لا يمتنعون من إيداعه من يعتريه الأمراض والأسقام. ووجدنا الفقهاء يطرحون ما يرويه ذوو السهو من الحديث، إلا أن يشركهم فيه غيرهم من ذوي التيقظ، والفطنة، والذكاء، والحصافة. فعلم فرق ما بين السهو والنوم بما ذكرناه.
ولو جاز أن يسهو النبي (عليه السلام) في صلاته وهو قدوة فيها حتى يسلم قبل تمامها وينصرف عنها قبل كمالها، ويشهد الناس ذلك فيه ويحيطوا به علما من جهته،
لجاز أن يسهو في الصيام حتى يأكل ويشرب نهارا في رمضان بين أصحابه وهم يشاهدونه ويستدركون عليه الغلط، وينبهونه عليه، بالتوقيف على ما جناه ولجاز أن يجامع النساء في شهر رمضان نهارا ولم يؤمن عليه السهو في مثل ذلك حتى يطأ المحرمات عليه من النساء وهو ساه في ذلك ظان انهم أزواجه ويتعدى من ذلك إلى وطي ذوات المحارم ساهيا. ويسهو في الزكاة فيؤخرها عن وقتها ويؤديها إلى غير أهلها ساهيا، ويخرج منها بعض المستحق عليه ناسيا. ويسهو في الحج حتى يجامع في الإحرام، ويسعى قبل الطواف ولا يحيط علما بكيفية رمي الجمار، ويتعدى من ذلك إلى السهو في كل أعمال الشريعة حتى يقلبها عن حدودها، ويضيعها في أوقاتها، ويأتي بها على غير حقائقها، ولم ينكر أن يسهو عن تحريم الخمر فيشربها ناسيا أو يظنها شرابا حلالا، ثم يتيقظ بعد ذلك لما هي عليه من صفتها… الخ».
◄ بيان إشكال الشيخ المفيد الأول:
إنّ السهو نقص عن الكمال في الإنسان ،وهو عيب يختص به من اعتراه؛ لأنه يمكن التحرز منه. ومعنى الإشكال: أنّ خليفة الله المفروض أنه أول من يتحرز عن العيوب التي يمكن الإنسان التحرز عنها، فكيف يمكن أنْ ننسب إلى خليفة الله صدور ما يمكن أي إنسان التحرز منه وهو السهو.
رد الإشكال: كلام الشيخ غير صحيح، فالإنسان لا يمكنه التحرز عن السهو مطلقاً، لعلة الدماغ البايلوجي وقدرته المحدودة على التركيز والحفظ، والتي تنخفض كلما زاد عدد الأمور التي يحتاج التركيز عليها، وبالنسبة للصلاة فقد يتسبب التركيز على ذكر الله والخشوع في الصلاة بنسيان عدد الركعات، وبهذا فقد يكون من نسى عدد الركعات التي صلاها أفضل ممّن ضبط عدد ركعات صلاته دون ذكر وخشوع. إذن، فلا يمكن الحكم بأن نسيان عدد الركعات عيب يختص به من اعتراه لأنه يمكن التحرز منه.
وأيضاً: عقلاً لا يمكن للإنسان التحرز من السهو والنسيان مطلقاً، وإلا لكان نوراً لا ظلمة فيه (أي كامل مطلق)، ولكان لاهوتاً مطلقاً تعالى الله علواً كبيراً، ولتعدد اللاهوت المطلق، وبالتالي فكل ما بناه على أن السهو أمر يمكن التحرز منه غير صحيح. أما تمثيله بأنّ ذوي السهو لا يعتد بحديثهم ولا يودعهم الحكماء الأمانات؛ فهو كلام مبني على من خرج عن الحد الطبيعي للسهو والنسيان، وهذا خلط وخبط عشواء، فالكلام ليس فيه إنما في وقوع السهو والنسيان ولو مرة أو مرتين، وهذا أمر يقع من كثير من الناس ويعتمد غيرهم على حديثهم ويودعونهم الأمانات، ولا يعتبر العقلاء أنّ من سهى في صلاته أو سهى في طوافه فدخل في الشوط الثامن أو نسى شيئاً خبأه ثم وجده؛ أنه ليس أهلاً للأمانة أو لا يعتمد على حديثه.
المصدر: كتاب عقائد الإسلام – السيد أحمد الحسن (ع)
◄ بيان إشكال الشيخ المفيد الثاني:
إنّ خليفة الله قدوة يقتدي به المؤمنون، فلو جاز أنْ يسهو خليفة الله في الصلاة أو العبادة لانتفى كونه قدوة، أي: لو جاز على خليفة الله السهو والنسيان لما صح أنْ يأمر الله الناس الاقتداء به في جميع أحواله.
رد الإشكال:هذا الإشكال غير دقيق؛ لأنّ الله لم يأمر الناس الاقتداء بأفعال خليفته دون معرفة عللها، فهو قد يترك الواجب وإنْ حان وقته لعلةٍ ما، كتركه الصلاة الواجبة التي حان وقتها لمروره في أرض نزل بها عذاب من الله فيما مضى، وقد يفعل ما لا يجوز لغيره فعله (محرم في الشريعة) لاختصاصه به كإبقاء رسول الله لأكثر من أربع زوجات في ذمته، وقد يفطر لمرض لا يراه غيره كالقرحة أو التسمم أو أي مرض طارئ مثلاً، فهل على بقية المؤمنين الإفطار بحجة أنّ المعصوم قد أفطر وهو قدوة، أم على المعصوم أنْ يضع لافتة يكتب عليها أنا مريض اليوم واضطررت للإفطار.
النتيجة: المعصوم ليس قدوة مطلقاً في جميع أفعاله وأحواله، دون فهم تلك الأحوال أو سؤاله عن فعله، خصوصاً إذا كان مشتبهاً على المشاهد.
وبالنسبة للسهو والنسيان بالخصوص؛ فلابد أنْ يعرف المكلفون أنّ فعل المعصوم هذا نتيجة سهو أو نسيان لكي يفترضوا عدم جواز الاقتداء به في هذا الفعل، والأصل في أفعال الناس أنها صحيحة وليست سهواً ولا نسياناً حتى يتبين العكس، وإلا لما صح محاسبة أحد من الناس على فعله.
إذن، لا يحمل أي فعل من أفعال خليفة الله على أنه سهو أو نسيان حتى يتبين بالدليل أنه سهو أو نسيان.
وعقيدتنا في متابعة المعصوم؛ أنّ متابعته يقين ينجي صاحبه، فلو أنّ رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) صلى الصبح أربع ركعات أو الظهر ركعتين، فمتابعته أصح وأقرب للهدى والرشاد، والاعتراض عليه سفه وضعف في اليقين ممّن فعل، فإنما الصلاة ركعة وسجدة يذكر الله فيهما.
المصدر: كتاب عقائد الإسلام – السيد أحمد الحسن (ع)
إنه لو جاز أنْ يسهو خليفة الله في صلاته لجاز أنْ يسهو في كل طاعة وأنْ يفعل كل محرم سهواً.
الرد:ومع أنّ هذا الإشكال مبني على مغالطة؛ حيث إنه مع السهو والنسيان لا يوجد شيء اسمه معصية أو حرام، فالعصيان وارتكاب المحرمات ليتحقق؛ يلزم توفر القصد والتعمد، وهي غير متوفرة في حال السهو والنسيان، وإضافة إلى ذلك فإنّ هذا الإشكال غير صحيح؛ لأنه مبني على أساس أنّ خليفة الله ينسى ويسهو كأي إنسان آخر وغير معصوم من المعاصي، وهذا لا يقول به أحد من أتباع محمد وآل محمد (عليهم السلام).
أو أنّ المستشكلين يعتقدون بالعصمة الذاتية المطلقة للحجة من السهو والنسيان، وبالتالي يعتبرون ذهاب بعضها يكون في كل الاتجاهات ويشمل كل الأشياء، والقول بالعصمة الذاتية بيَّنا بطلانه؛ حيث يلزم منه تعدد اللاهوت المطلق.
إذن:
العصمة من السهو ليست ذاتية، بل هي عصمة بعاصم خارجي ومذكر خارجي، وهي ليست عبثية بل وفق حكمة إلهية، فلا حاجة أنْ يعصم خليفة الله من السهو إلا فيما يتعلق بتبليغ دين الله سبحانه وتعالى، أما بقية الأمور فلا يعصم بها خارجياً، بل تبقى عصمته العامة الذاتية من السهو هي المانعة من وقوع السهو، وقد بيَّنت على أي الأمور تعتمد هذه العصمة العامة الذاتية من السهو، وبيَّنت أنها ليست تامة بذاتها، أي أنه مثلاً يكون معصوماً ذاتياً من السهو بنسبة سبعين في المئة أو ثمانين في المئة أو تسعين في المئة، وهذه العصمة العامة الذاتية وإنْ كانت بنسبة معينة، ولكنها قد تكون كافية في أمور معينة لتمنع وقوع السهو فيها، أي لا يحتاج معها – مع أنها غير تامة – إلى عاصم خارجي من السهو لتحقق العصمة التامة من السهو في ذلك المورد، وسبب ذلك يرجع إلى درجة ظهور الأمر بالنسبة للإنسان، ولبيان هذا الأمر الأخير أكثر لننظر إلى موضوع عدد الركعات في الصلاة – الذي هو موضع النزاع بينهم -، فهو في الحقيقة مدسوس بين أفعال الصلاة وهي الأذان، الإقامة، التكبير، القراءة، الركوع، الذكر فيه، السجود، الذكر فيه، القنوت، التشهد، وهذه الأفعال كثيرة وبالتالي فظهور عدد الركعات بينها ليس كظهور الامتناع عن الطعام والشراب بين أفعال الصيام التي لا يتعدى المبتلى به عموماً هذا الفعل وربما فعلاً آخر، لهذا فعند عامة الناس يقع السهو في الصلاة كثيراً، ولكن نادراً أنْ يقع السهو فيأكل أو يشرب الصائم وهو ساهٍ.
بل في الصلاة حتى طول الانشغال بفعل من أفعال الصلاة، يؤثر على ظهور الفعل الآخر للمصلي، فطول السجود أو الخشوع في الذكر عند شخص قد يؤدي إلى عدم تذكره لعدد الركعات التي صلاها؛ لأن دماغه انشغل بالخشوع والتفكير بالله عن التركيز على حساب عدد الركعات، فالخشوع والانشغال بذكر الله يرفع من نسبة احتمالية نسيان عدد الركعات التي صلاها المصلي، وأكيد أن الأفضل الانشغال بالذكر والخشوع حتى وإنْ أدى إلى ارتفاع احتمالية حدوث نسيان عدد الركعات، وأكيد أنه لا خير في صلاة لا خشوع فيها، حتى وإنْ ضبط المصلي عدد ركعاتها.
أيضاً: في الطواف مثلاً شخص خاشع ومنشغل بذكر الله وبالبكاء، أو يطوف ببطء شديد يمكن أنْ يغطي خشوعه وانشغاله بذكر الله، أو المدة الزمنية التي يقضيها في الطواف على تذكره عدد الأشواط التي طافها، فيسهو عن التوقف عند الشوط السابع فيدخل في الثامن.
إلى هنا أعتقد اتضح تماماً أنّ مسألة السهو متشعبة ومرتبطة بعدة متغيرات،
فلا يمكن أنْ نحكم بأنّ السهو يدل دائماً على تقصير الساهي في تحصيل كمال ممكن للإنسان،
ولا يمكن مقارنة سهو معين بآخر، أو القول إنّ من يسهو هنا لابد أنْ يسهو هناك،
ولا يمكن القول إنّ شخصاً لم يسهو في أمر معين أفضل من آخر لأنه سهى فيه،
ولو أردنا تصور مدى تعقيد المسألة فلنحسب عدد المتغيرات التي بيّنتها حتى الآن في مسألة السهو والنسيان، فكيف إذن يمكن أنْ نقبل – عقلاً – من شخص أنْ يشكل على مسألة السهو دون أنْ تكون العلاقات بين هذه المتغيرات وحلها حاضرة عنده؟!!!!
والحق إنّ حال المشكلين هو هذا، فلو أنهم يعون وجود كل هذه العوامل المتغيرة في المسألة لما ذهبوا للإشكال.
المصدر: كتاب عقائد الإسلام – السيد أحمد الحسن (ع)