دموزي :
((راح قلبي الى السهل نائحا نائحا
اني انا سيدة أي – انا التي تحطم بلاد الاعداء ،
اني انا ننسونا ام السيد العظيم
اني انا كشتن – انا اخت الفتى المقدس
راح قلبي الى السهل نائحا نائحا
راح الى مكان الفتى ،
راح الى مكان دموزي ،
الى العالم الاسفل ، مستوطن الراعي
راح قلبي الى السهل نائحا نائحا
الى المكان الذي ربط فيه الفتى ،
الى المكان الذي احتجز فيه دموزي…
راح قلبي الى السهل نائحا نائحا )) عشتار ومأساة تموز – د. فاضل عبد الواحد علي
جلجامش :
خطاب انكيدو لجلجامش :
((انك الرجل الاوحد ،
انت الذي حملتك امك،
ولدتك امك ننسون …..
ورفع أنليل رأسك عاليا على الناس،
وقدر اليك الملوكية على البشر)) ملحمة جلجامش – طه باقر
ملحمة جلجامش يمكن ان نقرأ فيها تاريخ الانسانية الآتي وليس الماضي كما يتصور بعض شراحها، ويمكن ان نقرأ فيها قصة المنقذ للنوع الانساني من حيوانيته التي كانت – وللأسف – حاضرة على الدوام وبقوة خصوصا في المواجهات الكبرى،
((كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ ………)) الجمعة 5
((كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ ………..)) الأعراف 176
((وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً ………..)) المائدة 60
المنقذ الذي ذاع صيته منذ آلاف السنين وانتقل خبره عبر القارات فوصل من بلاد مابين النهرين الى شمال افريقيا فنجد صورا رمزية له في الآثار المصرية ((صورة رجل قائم ممسك بكل وقار ثورين قائمين واحد عن يمينه والآخر عن يساره . وهذا منظر نشاهده على عدد كبير من الآثار البابلية ويمثل عادة (جلجامش) في صراعه مع الحيوانات المتوحشة.)) اساطير بابل – شارل فيروللو.
جلجامش في الملحمة (ثلثاه اله) ونجد قصته – وهو صاحب الطوفان الثاني – مرتبطة بقصة جده السومري زيو سو درا (نوح) والبابلي اوتو – نبشتم (نوح) صاحب الطوفان الاول، بل ربما اهم اسفار جلجامش في الملحمة هو سفره ليلتقي بجده نوح – اوتو نبشتم الخالد مع الالهة ويسأله عن السر الذي يمكنه ان يتخلص من ثلثه الانساني ليخلد مع الالهة كجده نوح ع او بعبارة اخرى ليكتب اسمه في سجل الحياة الابدية بجدارة ويكون من الخالدين روحيا فالمسألة متعلقة بروحه فثلثاه اله واراد ان يجعل ثلثه الباقي كذلك ولاعلاقة للامر بالخلود الجسماني كما توهم شراح الملحمة.
نجد جلجامش – في بعض النصوص – واضحا انه منقذ ورمز للعدالة ينتظره الجميع ويتداولون قصته:
((لازم ابطال اوروك حجراتهم متذمرين شاكين
لم يترك جلجامش ابنا لابيه
ولم تنقطع مظالمه عن الناس ليل نهار
ولكن جلجامش هو راعي أوروك ،
السور والحمى
انه راعينا : قوي وجميل وحكيم
لم يترك جلجامش عذراء لحبيبها
ولا ابنة المقاتل ولاخطيبة البطل…..)) ملحمة جلجامش – طه باقر،
من غير المعقول – كما فهم بعض المختصين بالحضارة السومرية – ان يكون المقصود بهذه المقاطع اعتداء جلجامش على اعراض الناس أو ظلمهم والا لكانت الملحمة متناقضة تماما فجلجامش وصُف في بدايتها بارقى مايمكن ان يوصف به حاكم عادل بل في نفس هذه الاسطر وصف بانه حكيم، فكيف يعتدي ملك حكيم على اعراض رعيته ويظلمهم ثم ان الجزء الاتي من الملحمة سيصف جلجامش بوصف مثالي مثل الايثار والشجاعة والاخلاص ولهذا فهكذا نصوص اما ان تكون تحريفا مقصودا حشر في النص او انها رمزية وبالتالي تحتاج الى تاويل وبيان.
واذا قرأنا النص بتدبر سنجد ان المراد هو منقذ النوع الانساني من حيوانيته، منقذ النوع الانساني الذي رافقت قصته كل الامم لان الذين يسبقون زمن بعثه اذا لم تكن اممهم مهيأة لاستقباله فعلى الاقل هناك افراد في تلك الامم يمكن ان تنقذهم قصته التي يتداولونها، انه الشخص الذي سيربطهم بالله وسيفتح باب السماء ليسمع كل من يريد ان يسمع وحيا عظيما يُعَرِفُه بالحقيقة فيشغف بها، الحقيقة التي اظهرتنا من العدم، الحقيقة التي خُلقنا لنعرفها، ولهذا فهو سيشغل الجميع بالله وليس بشخصه هو، لانه لو شغلهم بنفسه او تركهم ينشغلون به دون ان ينبههم فلن يكون هناك فرق بينه وبين اي طاغية ظالم يريد الشهرة والسمعة،
الآن يمكننا أن نفهم جيدا لماذا (لازم ابطال اوروك حجراتهم متذمرين شاكين)، ولماذا (لم يترك جلجامش ابنا لابيه … ولم يترك جلجامش عذراء لحبيبها ولا ابنة المقاتل ولا خطيبة البطل )، لانهم جميعا شغفوا بالله وتعلقوا به سبحانه، جاء جلجامش المُخَلِص وفتح لهؤلاء المُخَلَصين ، الذين سيكونون في زمن معين ، باب وحي عظيم وعلمهم كيف يتعلقون بالله وكيف يحبون الله وكيف يسمعون الله في كل شيء ولو رجعت للسومريين لوجدتهم يتشوقون لهذه الامور،
(هو جلجامش الذي معناه : المحارب الذي في المقدمة والرجل الذي سيكون نواة لشجرة جديدة )،
جلجامش الشخصية المقدسة عند السومريين او الاكاديين – البابليين – الاشوريين وكثير من شعوب العالم القديم يوصف بدقة في ملحمة جلجامش (ثلثان منه اله وثلثه الباقي بشر) اي ان النور في وجوده غالب على الجانب المظلم او الانا ولكنه يبحث في النهاية عن سر الخلاص النهائي من هذه الظلمة، وحتى معنى اسم جلجامش دال على مهمته فهو المحارب الذي في المقدمة،
وفي الملحمة :
هو : المحارب الذي قتل الشيطان خمبابا،
وهو: المحارب الذي اهان عشتار (الدنيا)،
وهو: المحارب الذي سحق نفسه،
وهو ايضا الشخص الذي سيكون نواة لشجرة انسانية جديدة تنتصر على حيوانيتها، ( هذا ولايعلم معنى اسم جلجامش بالضبط . وقد ذكرت بعض النصوص الاكدية معناها “المحارب الذي في المقدمة” . كما ان هناك احتمالا لاسمه السومري معناه (الرجل الذي سيكون نواة لشجرة جديدة) اي (الرجل الذي سيولد أسرة)) طه باقر – ملحمة جلجامش.
لعل اعظم تشويه تتعرض له هذه الملاحم هو اسقاط الشخصيات الملحمية على مصاديق خاطئة نتيجة الاشتباه، كاسقاطها على ملوك وردت اسماؤهم في سجل الملوك، مثلا عندما يتم اسقاط شخصية جلجامش الملحمية على الملك جلجامش رغم اختلاف اسماء الاباء والنسب فهذا تماما كمن يقول اليوم وهو يقرأ قصة المهدي الملحمية التي ذكرها النبي محمد ص في روايات كثيرة ان هناك ملكا في دولة بني العباس قبل اكثر من الف عام اسمه المهدي وهو يعتقد ان المقصود بقصة المهدي الاسلامي الملحمية هو ذلك الملك العباسي، وهذا للاسف حصل كثيرا مع جلجامش مع ان بعض الباحثين المتخصصين في الاثار السومرية صرحوا بأنه لايصح اعتبار جلجامش الملحمة هو نفسه جلجامش التاريخ بناء على تشابه الاسماء فقط، يقول شارل فيروللو: ((إذن توجد أسباب تجعلنا نؤمن بأنه كان يوجد في زمن قديم جدا ملك اسمه (جلجامش) . وهذا الاسم مندرج في لائحة ملوك أوروك – كشفت حديثا- ولكنه ليس في اول القائمة – كما ينتظر – فجلجامش التاريخ لم يؤسس دولة بل كان في عداد ملوك – لانعرف عنهم شيئا من الوجهة التاريخية إلا أسماءهم……… وعلى أية حال، ليس (جلجامش) الذي كتب عنه التاريخ سطرين يسترعي انتباهنا، ولكن (جلجامش) الذي وصلتنا اسطورته الشعرية )) اساطير بابل وكنعان.
ملحمة جلجامش التي كان ملوك سومر واكاد وأيضا بابل وحتى اشور يضعونها في مكتباتهم ويهتمون بها وكانت عندهم وعند الناس كأنها تعويذة او كتاب مقدس اعتقد انها جديرة بالتأمل والبحث في: هل انها كانت تمثل قصة الشخص الاتي الذي ينتظره السومريون او الاكديون والبابليون والاشوريون كمنقذ ومخلص؟
يقول طه باقر : ((والبطل جلجامش نفسه انتقل اسمه الى معظم آداب الامم القديمة أو ان أعماله نسبت الى ابطال الامم الاخرى مثل هرقل والاسكندر وذي القرنين والبطل أوديسوس في الاوديسة)) طه باقر – ملحمة جلجامش وقال ايضا ((عجبا من كان جلجامش هذا الذي اصبح مثالا يحتذى به لدى ابطال الامم الاخرى ؟!))
ويقول شارل فيروللو : ((ولقد عرف المصريون – في الزمن القديم – الشخصية التي نحن بصددها إذ عثر في وادي النيل في جبل الاراك على مدية شفرتها من صوان لامن معدن ومقبضها من عاج تحمل على احد وجهيها صورة رجل قائم ممسك بكل وقار ثورين قائمين واحد عن يمينه والآخر عن يساره . وهذا منظر نشاهده على عدد كبير من الآثار البابلية ويمثل عادة (جلجامش) في صراعه مع الحيوانات المتوحشة.)) اساطير بابل – شارل فيروللو
اذن جلجامش ليس مجرد شخص عادل او صالح، وليس مجرد ملك او سيكون ملكا في يوم ما بل جلجامش شخصية أممية وهو مثال يقتدي به ابطال الامم كما نقلت لنا الاثار، وكون جلجامش شخصية اممية فهذا هو الامر الوحيد الذي يمكن ان يفسر وجود نسخ من ملحمة جلجامش في دول مختلفة وحتى بغير لغاتها ((ولعل خير ما يكشف عن اثرها العظيم في عقول ابناء الحضارات القديمة المدى الواسع الذي انتشرت فيه في العالم القديم . فبالنسبة لسكان العراق الاقدمين لم يقتصر تداولها على سكان القسم الجنوبي والوسطي من العراق ، وهو القسم الذي عرف باسم بلاد سومر وأكد ، بل تسربت ايضا الى القسم الشمالي اي الى بلاد اشور. فقد وجدت نسخ كثيرة لها في حواضر العراق القديم من عهد ازدهار الحضارة البابلية في العهد البابلي القديم (الالف الثاني ق. م ) اما بالنسبة لبلاد اشور فان آخر نشرة كاملة وصلت الينا قد وجدت نصوصها في خزانة كتب الملك الاشوري آشور بانيبال الشهيرة……… وبالنسبة لمراكز الحضارات القديمة سبق لنا ان نوهنا بعثور الباحثين على نسخ كثيرة من أجزائها في اقاليم نائية مثل الاناضول ، موطن الحضارة الحثية، وقد دون بعض هذه النصوص باللغة البابلية القديمة ، كما وجدت أيضا ترجمات الى اللغتين الحثية والحورية . وحديثا تم اكتشاف مثير لنسخة من بعض فصولها في احدى مدن فلسطين القديمة وهي (مجدو) الشهيرة في التوراة ، ويرجع زمن هذه النسخة الصغيرة الى حدود القرن الرابع عشر ق.م. …. )) طه باقر – ملحمة جلجامش.
هكذا تصف القصة الملحمية جلجامش في مطلعها وتلخص كل شيء عن جلجامش في اسطر قليلة هي بمثابة تعريف لشخصية جلجامش ومهمته :
((اللوح الاول :
هو الذي رأى كل شيء فغني بذكره يابلادي،
وهو الذي خبر جميع الاشياء وافاد من عبرها،
وهو الحكيم العارف بكل شيء،
لقد ابصر الاسرار وعرف الخفايا المكتومة،
وجاء بانباء الايام مما قبل الطوفان،
لقد أوغل في الاسفار البعيدة حتى حل به الضنى والتعب ،
فنقش في نصب الحجر كل ما عاناه وما خبره))
واضح ان النص يصف شخصاً عالماً (رأى كل شيء ….. الذي خبر جميع الاشياء ……. الحكيم العارف…… ابصر الاسرار وعرف الخفايا المكتومة) ومُعَلِماً مهما جاء بعلوم مهمة وسينقشها بحيث انها ستبقى بين الناس (فنقش في نصب الحجر كل ما عاناه وما خبره) ولو رجعنا للنص الديني الوارد في المهدي نجد الامام الصادق ع يقول : (العلم سبعة وعشرون حرفاً، فجميع ما جاءت به الرسل حرفان فلم يعرف الناس حتى اليوم غير الحرفين، فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفاً فبثها في الناس، وضم إليها الحرفين حتى يبثها سبعة وعشرين حرفاً) بحار الأنوار: ج52 ص336.
السيد أحمد الحسن
٢١ ديسمبر ٢٠١٢ م