أولاً: آيات تبيّن أنّ الأنبياء يأتون بالمعجزة بإذن الله، وربما لا يأذن الله:
﴿وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 109].
﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [العنكبوت: 50].
ثانياً: آيات بيّنت أنّ المعجزات إنْ أتت قاهرة ولم تبقي للغيب شيئاً، لا يقبل الإيمان من خلالها:
﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾ [الأنعام: 158].
والآية واضحة: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ﴾، فعندما تأتي بعض الآيات (المعجزات) لا يقبل الله الإيمان. هذا مع أننا نعرف حقيقة قبول التوبة إلى آخر نفس. إذن، لا مجال هنا إلا أنْ يكون المعنى؛ إنّ هذه الآيات ألغت الامتحان، بحيث أصبح حال الإنسان كالميت الذي خرج من دنيا الامتحان، فلا يقبل منه إيمان ولا عمل، أي أنه ألغي امتحانه أو قل وضعت الإجابات أمامه بوضوح (معجزة قاهرة) ولم يعد هناك معنى لطلب إجابته على السؤال المطروح.
﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾ [يونس: 90 – 92]، وقد كتبت في بيان معنى هذه الآيات فيما مضى ويمكن مراجعة (تفسير آية من سورة يونس).
ثالثاً: آيات تبيّن أنّ الذين آمنوا عند نزول المعجزة يقبل الله إيمانهم، وإيمانهم صحيح: ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى…. وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى﴾ [طه: 70 – 76].
وسبب قبول إيمانهم هو أنهم لم يحصلوا على الإجابة الكاملة، وإنما حصلوا على بعض الإجابة، أي كمن تعطيه إشارات وعلامات تساعده على جواب أسئلة الامتحان، فهو وإنْ كان بمستوى أقل من الآخر الذي أجاب بدون مساعدة، ولكن بالنتيجة هذا أيضاً يُقبل منه الجواب؛ لأنه أثبت أنّ لديه معرفة بقدرٍ ما، مكّنته من الوصول للجواب وإن كانت بمساعدة معينة، أي أنّ هؤلاء لم يلغَ امتحانهم ولم توضع أمامهم أجوبة أسئلة الامتحان حتى يكون جوابهم بلا قيمة، وهكذا فهم لم يخرجوا من الامتحان كحال الفئة في “ثانياً”.
رابعاً: المعجزات لابد أنْ يكون فيها شيء من اللّبس:
﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: 9].
خلاصة ما تقدم: إنّ الآيات تأتي بإذن الله وليس بطلب الناس، وبالتالي فطلب الناس للمعجزة وامتناع الرسول من تقديمها لا يعني عدم أحقية الرسول. أيضاً: هناك معجزات يقبل إيمان الإنسان عندما تأتي ويراها، وهناك آيات لا يقبل إيمان الإنسان عندما تأتي. أيضاً: الله يقول إنّ الآية إذا أرسلتها أجعل فيها لبساً كما تقدم ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾.
إذن، الآية التي يقبل الإيمان من خلالها هي الآية التي فيها لبس، والتي تركت مجالاً للإيمان بالغيب، أما الآية التي لا يقبل الإيمان من خلالها؛ فهي الآية التي لا لبس فيها ولا مجال لأحد للطعن فيها. وهذا الأمر أيضاً واضح من قصة موسى، ففرعون استطاع الطعن والتشكيك بمعجزة العصا عندما تحوّلت إلى أفعى: ﴿قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ [طه: 71]، ﴿فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾، ولكنه عجز عن التشكيك بمعجزة انشقاق البحر وخضع وصدق وقال آمنت، ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 90]، ولكن لم يقبل إيمانه؛ لأنه إيمان بمعجزة قاهرة لا لبس فيها ولا تقبل التشكيك، ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾ [يونس: 91 – 92].
بل حتى على مستوى الآيات التي تبيّن طلب المخالفين للمعجزة من رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) كقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [العنكبوت: 50]، فهي تتعارض ظاهراً مع ما نقل تاريخياً من معجزاته حيث يمكن أن يفهم بعضهم من هذه الآية أنه لم يأتي بمعجزة ولهذا هم يطلبون منه المعجزة وهو يتحجج بأن المعجزة عند الله، والحقيقة إنّ هذا الأمر بالنسبة لبعض من يطعنون بالإسلام وصحة نبوة الرسول (صلى الله عليه وآله) يمثل تعارضاً واضحاً، فهو على الأقل تعارض بين النص القرآني والمنقول في ادعاء حصول معجزات للرسول محمد (صلى الله عليه وآله)، ولكن الحقيقة إنه لا يوجد أي تعارض؛ لأنّ المعجزات تقع ضمن القانون العام والسنة الإلهية للإيمان بالغيب، أي كون الإيمان المقبول هو الإيمان بالغيب، وبالتالي فالمعجزات التي يطرحها المرسلون ومنهم محمد (صلى الله عليه وآله) أمام المخالفين المدعوين للإيمان لا تكون قاهرة، بينما يطلب المنكرون معجزات قاهرة لا لبس فيها.
والمعجزة إنْ وقعت قاهرة ولم تبقي للغيب شيئاً لم يقبل الإيمان من خلالها، ولذا فهي لا تأتي ليؤمن المعاند من خلالها بل تقع إما:
1- أمام المؤمنين، وبالتالي لا يكون لها أثر على كون إيمانهم بالغيب؛ لأنّ إيمانهم سبق وقوعها. نعم، هي تزيد يقينهم، وتكون حجة على من تُنقل لهم.
2- أمام من هم على وشك الإيمان والإقرار بالحق، وبالتالي فهي لم تلغي مساحة الغيب من إيمانهم؛ حيث إنهم وصلوا إلى نسبة ترجيح لصدق الدعوة الإلهية، وبالتالي فهم مؤمنون بالدعوة الإلهية بقدرٍ ما ولكنهم لم يعلنوا إيمانهم.
3- أمام الكافرين المعذبين بها، كمعجزة طوفان نوح (عليه السلام)، ومعجزة شق البحر لموسى (عليه السلام).
وعادة إنْ وقعت المعجزة أمام الجميع، أو أمام المنكرين الذين يطلب إيمانهم بها؛ فلابد أنْ يكون فيها مجالاً للغيب، ويكون فيها لبساً. لهذا فالكفار لم يكونوا يرون أنّ ما وقع مرافقاً لدعوة محمد معجزات؛ حيث إنهم يعتبرون نَقْلَ المؤمنين بمحمد (صلى الله عليه وآله) لما حصل أمامهم كذباً، ويعتبرون ما وقع أمامهم هم أنفسهم أو ما وقع أمام آخرين منهم مجرد سحر أو أوهام، ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ﴾ [الحجر: 14 – 15]، أو مجرد تخرصات وتأول لحوادث طبيعية تحصل كل يوم، فمن يهلكه الله مباشرة بحصان يجرّه للنار أو يقع عليه حجر ويقتله لتجاوزه على محمد (صلى الله عليه وآله)؛ هم يعتبرونه مجرد حادث طبيعي، وأنّ الموت جاري ويحصل كل يوم. ونقْل المؤمنين بمحمد (صلى الله عليه وآله) لحنين الجذع الذي في المسجد لرسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ يعتبره المخالفون كذباً، وأنّ المؤمنين بمحمد (صلى الله عليه وآله) يحاولون التسويق لمحمد (صلى الله عليه وآله)،
وهكذا تستمر عملية الرد على المعجزات غير القاهرة التي تبقي للغيب مساحة، وهذا قولهم: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [العنكبوت: 50]، أي أنهم يريدون آيات قاهرة واضحة لا لبس فيها لا تبقي للإيمان بالغيب أي نسبة، هذا هو مختصر طلبهم، وهو طلب مستمر إلى اليوم، في حين أنه منافي للعقل والنص الديني وللسنة الإلهية، ولم يقع فيما مضى ولن يقع فيما بقى؛ لأنّ معناه إلغاء امتحان بعض الخلق رغم أنهم دخلوا للدنيا للامتحان، وهذا سفه لا يصدر من حكيم مطلق، فكيف يدخل الناس للامتحان ثم يلغي امتحان بعضهم دون بعض ودون سبب راجح ودون أنْ يكون هناك مائز بين من ألغي امتحانه وبين من يتم امتحانه؟!!!
وكيف يدخل من ألغي امتحانه للجنة في حين يدخل الممتحن إلى النار إنْ فشل في الامتحان، أين هي إذن عدالة الله سبحانه وتعالى في هذا القول والافتراء على الله؟!!!
فالمحصلة من القرآن والعقل معاً؛ إنّ مسألة المعجزة لها حدود وقيود، وليست بالعبثية والعشوائية التي يصورها العلماء غير العاملين، خصوصاً وهم يواجهون الأنبياء والأوصياء في كل زمان.
فالمعجزة كما تبيّن لا تأتي لرغبة الرسول ولا رغبة المكلفين، بل هي أمر الله يجريه الله متى شاء وأينما شاء. والمعجزة المادية إنْ جاءت يجب أنْ لا تلغي مساحة الغيب؛ لأن القانون الإلهي والسنة الإلهية هي الإيمان بالغيب، بينما وللأسف يطلب أكثر الناس وعلى مر العصور معجزات تقهرهم على الإيمان ولا تبقي أي مساحة للتأول أو الشك، وبالتالي فهم يطلبون إيماناً مادياً محضاً لا مساحة للغيب فيه، وهذا إيمان لا يقبل، وبالتالي فهم يطلبون طلباً سفيهاً لا يحققه الله لهم؛ لأنه حكيم مطلق ولا يجاري السفهاء في سفاهتهم.
المصدر: كتاب عقائد الإسلام – السيد أحمد الحسن (ع)