وتبدأ رحلة جلجامش الى جده نوح (اوتو- نبشتم) والتي يطلب فيها الخلود،
خلود الروح وليس خلود الجسم، فجلجامش منذ البداية يعرف ان لا خلود للجسم فقد مر قوله ((والالهة (الصالحين) وحدهم هم الذين يعيشون الى الابد مع شمش أما ابناء البشر فأيامهم معدودات وكل ماعملوا هواء عبث)) وجده نوح ميت منذ زمن بعيد وهو يعلم هذا جيدا اذن هي رحلة الى العالم الاخر وفي هذه الرحلة يسحق جلجامش نفسه فيحقق الخلود الذي سافر في طلبه. يحقق مراده في نفس الرحلة وحتى قبل ان يصل الى جده نوح (اوتو – نبشتم) : ((سأطلق شعري وسألبس جلد الاسد واهيم على وجهي في البراري)) ملحمة جلجامش
ويدخل جلجامش عالم الحقيقة ويرى الامور على ماهي في رحلته الى جده اوتو – نبشتم (نوح ع):
(( لقد بلغ جبل “ماشو”
الذي يحرس كل يوم مشرق الشمس ومغربها،
والذي يبلغ علوه سمك السماء
وفي الاسفل ينحدر صدره الى العالم الاسفل،
ويحرس بابه “البشر العقارب”
الذين يبعثون الرعب والهلع ونظراتهم الموت
ويطغى جلالهم المرعب على الجبال،
الذين يحرسون الشمس في شروقها وغروبها،
ولما ابصرهم جلجامش اصفر وجهه خوفا ورعبا ،
ولكنه تشجع واقترب امامهم
فنادى “الرجل العقرب” زوجته وقال لها :
ان الذي جاء الينا جسمه من مادة الالهة،
فأجابت زوجة “الرجل العقرب” زوجها وقالت :
اجل ان ثلثيه اله وثلثه الاخر بشر،
ثم نادى “الرجل العقرب” جلجامش
وخاطب نسل الالهة بهذه الكلمات:
مالذي حملك على هذا السفر البعيد ؟
وعلام قطعت الطريق وجئت الي عابرا البحار الصعبة العبور،
فأبن لي القصد من المجيء الي
فاجابه جلجامش قائلا:-
اتيت قاصدا ابي (اوتو – نبشتم) (نوح)
الذي دخل في مجمع الالهة *
جئت لأسأله عن لغز الحياة والموت *
ففتح الرجل العقرب فاه وقال مخاطبا جلجامش :
لم يستطع احد من قبل ان يفعل ذلك ياجلجامش
لم يعبر احد من البشر مسالك الجبال
حيث يعم الظلام الحالك في داخلها مسافة اثنتي عشرة ساعة مضاعفة ولايوجد نور ……..جزء مخروم من الملحمة …….
فاجاب جلجامش : عزمت على ان اذهب ولو بالحزن والآلام *
وفي القر والحر وفي الحسرات والبكاء *
فأفتح لي الآن باب الجبال،
ففتح الرجل العقرب فاه واجاب جلجامش :
مر ياجلجامش ولاتخف،
فقد اذنت لك ان تعبر جبال “ماشو”،
وعساك ان تقطع الجبال وسلاسلها،
وعسى ان تعود بك قدماك سالما،
وهاهو باب الجبل مفتوح امامك،)) طه باقر ـ ملحمة جلجامش ص75 ـ 76.
تستمر رحلة جلجامش ويمر بصاحبة الحانة وكأنها رمز لسكر الناس بحب الدنيا والانا فتدعوه صاحبة الحانة الى الدنيا والاهتمام بنفسه وترك هذا السفر المتعب في طلب الخلود ،
((فاجابت صاحبة الحانة جلجامش قائلة له :
ان الحياة التي تبغي لن تجد
اذ لما خلقت الالهة البشر قدرت الموت على البشرية
واستاثرت هي بالحياة*
اما انت ياجلجامش فاجعل كرشك مملوءا *
وكن فرحا مبتهجا ليل نهار*
واقم الافراح في كل يوم من ايامك
وارقص والعب ليل نهار*
واجعل ثيابك نظيفة زاهية *
واغسل رأسك واستحم في الماء *
ودلل الطفل الذي يمسك بيدك *
وافرح الزوجة التي بين احضانك*
وهذا هو نصيب البشر،
ولكن جلجامش اردف مخاطبا صاحبة الحانة :
ياصاحبة الحانة اين الطريق الى اوتو – نبشتم
دليني كيف اتجه اليه ؟
فاذا امكنني الوصول اليه فانني حتى البحار ساعبرها،
واذا تعذر الوصول اليه فسأهيم على وجهي في البراري،)) طه باقر ـ ملحمة جلجامش ص79 ـ 82
هذه الكلمات الاخيرة كأن موسى ع في القرآن قد اقتبس معناها من جلجامش فقال: (( ..لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً)) الكهف 60
وتستمر رحلة جلجامش حتى يصل الى جده اوتو – نبشتم (نوح ع) ويروي له جده قصة الطوفان ويعرف جلجامش من جده سر الحياة :
(( قال اوتو – نبشتم لجلجامش :
ان الموت قاس لايرحم
متى بنينا بيتا يقوم الى الابد؟
متى ختمنا عقدا يدوم الى الابد؟
وهل يقتسم الاخوة ميراثهم ليبقى الى اخر الدهر؟
وهل تبقى البغضاء في الارض الى الابد؟
وهل يرتفع النهر وياتي بالفيضان على الدوام؟
والفراشة لاتكاد تخرج من شرنقتها فتبصر وجه الشمس حتى يحل اجلها
ولم يكن دوام وخلود منذ القدم
وياما اعظم الشبه بين النائم والميت!
الا تبدو عليهما هيئة الموت؟
من ذا الذي يستطيع ان يميز بين العبد والسيد اذا جاء اجلهما؟)) طه باقر ـ ملحمة جلجامش ص87
الملاحم والقصص السومرية والقصائد تثبت ان قصة الدين الالهي موجودة ومكتملة عند السومريين بكل جزئياتها وشخصياتها ورموزها قبل الديانة اليهودية والمسيحية والاسلامية فنجد في الرقم الطينية السومرية الاله الحقيقي الواحد المهيمن على كل شيء ونجد عندهم العقائد والقيم الاخلاقية والنواميس المقدسة والعبادة وطرقها وسبل الانتصار على الشيطان وعلى الدنيا وعلى الانا وحب الذات اذن فهو الدين كله من الفه الى ياءه عند السومريين فمن اين اتوا به؟ من اين جاءوا بهذه المنظومة المعقدة التي ظهرت مكتملة فجأة في تاريخ بلاد مابين النهرين؟ الحقيقة التي يراها كل عاقل ظاهرة كالشمس ان هناك قفزة ثقافية وحضارية اظهرتها لنا الثقافة والحضارة السومرية فمن يريد ان ينكر بعد كل ماتقدم فهذا شانه وعموما فقد وضعت اطروحات ونظريات لتفسير هذه القفزة الثقافية ولو كان الامر ليس كذلك لما وصل الامر الى ان توضع نظرية قدوم كائنات من الفضاء والعجب كل العجب ممن يقبل ان سبب تطور الانسانية هو قدوم كائنات فضائية بمركباتهم وقدراتهم الكونية التي لانرى لها اثرا على الارض لكي يعلل هذه القفزة الثقافية ولايقبل ان نفس آدم نفخت في جسم فتطور وانتقل الى مستوى ارقى في الخلق والتنظيم والقدرة على التفكير والادراك.
السيد أحمد الحسن
٢٣ ديسمبر ٢٠١٢ م