بعضهم يعتقد أنّ من صفات المعصوم أنه لا ظل له، وأنه إذا مشى على الحجر يؤثر فيه ولا يؤثر في الأرض الرخوة، وأنه لا تأكل لحمه السباع أو لا تهاجمه السباع …. الخ.
والحق إنّ هذا اعتقاد باطل، ومن يعتقد أنّ المعصوم يتصف بالمعجز كصفة ملازمة له (عليه السلام) فهو منحرف العقيدة، وحاله أنه:
أولاً: مخالف للقرآن الذي يعتبر محمداً (صلى الله عليه وآله) – أفضل خلفاء الله – أنه بشر وله الصفات الجسمانية البشرية، وميزته روحية نتيجة لإخلاصه (صلى الله عليه وآله) وليست جسمانية، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾[الكهف: 110]، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ﴾[فصلت: 6].
ثانياً: متهم لله بمخالفة العدل، وتفضيل بعض الخلق على بعض قبل امتحانهم وظهور فضل بعضهم على بعض بالعمل.
ثالثاً: متهم لله بمخالفة الحكمة؛ حيث رغم أنّ خلفاءه لهم صفات معجزة كما يدّعي منحرفو العقيدة، زودهم الله بمعجزات هي أقل ظهوراً في الإعجاز من تلك الصفات، فالتأثير في الحجر الذي يتصف به موسى (عليه السلام) – بحسب أصحاب العقيدة الفاسدة – أعظم من معجزة وقتية تأتي مع موسى (عليه السلام)، وهي تحول عصا إلى أفعى، فلما دخل موسى إلى قصر فرعون أكيد أنه هدم أرضية قصر فرعون بحسب دعوى هؤلاء السفهاء؛ حيث إنهم يعتقدون أنه يتصف بالتأثير في الحجر، وهذا أمر أثره باقٍ ولا يمكن أن يقال إنها سحر، فما حاجة موسى بعد كل هذا لعصا تتحول إلى أفعى، ويقول عنها فرعون إنها سحر.
رابعاً: بهذه العقائد المنحرفة كعقيدة أنّ الحيوانات المفترسة لا تأكل أو لا تهاجم المعصوم أو الإمام؛ يعطي هؤلاء تخويلاً لقتلة الحسين (عليه السلام) بقتله، بل ويعطون الحجة لمن لا يؤمن بالحسين (عليه السلام)؛ لأنه بحسب هذه العقيدة يثبت عندهم أنه (عليه السلام) ليس إماماً، لأنّ الخيل وهي حيوانات أليفة داست على صدره، فلو كانت الحيوانات المفترسة لا تؤذي الإمام الحق أو خليفة الله، فمن باب أولى أنّ الخيل الأليفة لا تدوس على صدره، وهكذا يعطي هؤلاء باعتقاداتهم الباطلة حجة للذين لا يؤمنون بآل محمد (عليهم السلام) أنْ يطعنوا بإمامة الأئمة (عليهم السلام).
والحقيقة إنّ ما روي هو عكس هذه العقيدة تماماً، فقد روي أنّ المفترسات تجرأت على جسد الحسين (عليه السلام) كما تجرأ البشر وكما تجرأت الخيول، روي أنّ الحسين (عليه السلام) لما عزم على الخروج إلى العراق قام خطيباً فقال:
«الْحَمْدُ لِلّهِ وما شاءَ اللهُ، وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ، [وَصَلَّى اللهُ عَلى رَسُولِهِ]، خُطَّ الْمَوْتُ عَلى وُلْدِ آدَمَ مَخَطَّ الْقِلادَةِ عَلى جيدِ الْفَتاةِ، وَما أَوْلَهَني إِلى أَسْلافي اشْتِياقَ يَعْقُوبَ إِلى يُوسُفَ، وَخيرَ لي مَصْرَعٌ أَنَا لاقيهِ، كَأَنّي بِأَوْصالي تُقَطِّعُها عُسْلانُ الْفَلَواتِ بَيْنَ النَّواويسِ وَكَرْبَلاءَ، فَيَمْلأَنَّ مِنّي أَكْراشاً جَوفاً وَأَجْرِبَةً سُغْباً، لا مَحيصَ عَنْ يَوْم، خُطَّ بِالْقَلَمِ، رِضىَ اللهِ رِضانا أَهْلَ الْبَيْتِ، نَصْبِرُ عَلى بَلائِهِ وَيُوَفّينا أُجُورَ الصّابِرينَ، لَنْ تَشُذَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) لُحْمَتُهُ، وَهِيَ مَجْمُوعَةٌ لَهُ في حَظيرَةِ الْقُدْسِ، تَقَرُّ بِهِمْ عَيْنُهُ، وَيُنْجَزُ بِهِمْ وَعْدُهُ، مَنْ كانَ باذِلاً فينا مُهْجَتَهُ، وَمُوَطِّناً عَلى لِقاءِ اللهِ نَفْسَهُ فَلْيَرْحَلْ مَعَنا فَإِنّي راحِلٌ مُصْبِحاً إِنْ شاءَ اللّهُ [تَعالى]»
وقالت زينب بنت علي (عليها السلام) :
«…. أظننت يا يزيد انه حين اخذ علينا بأطراف الأرض وأكناف السماء فأصبحنا نساق كما يساق الأسارى أن بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة وان هذا لعظيم خطرك …… مع اني والله يا عدو الله وابن عدوه استصغر قدرك واستعظم تقريعك غير أن العيون عبرى والصدور حرى وما يجزي ذلك أو يغني عنا وقد قتل الحسين (عليه السلام) وحزب الشيطان يقربنا إلى حزب السفهاء ليعطوهم أموال الله على انتهاك محارم الله فهذه الأيدي تنطف من دمائنا وهذه الأفواه تتحلب من لحومنا وتلك الجثث الزواكي يعتامها عسلان الفلوات فلئن اتخذتنا مغنما لتتخذن مغرما حين لا تجد إلا ما قدمت يداك…»
«…. ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك إني لاستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك وأستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرى، ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفرها أمهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنما لتجدنا وشيكا مغرما، حين لا تجد إلا ما قدمت وما ربك بظلام للعبيد…»
و”عسلان الفلوات”: أي الحيوانات المفترسة البرية أو الذئاب منها بالخصوص، و”أمهات الفراعل”: أي الضباع، وظاهر الكلام واضح.
«كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن منى أكراشاً جوفاً، وأجربة سغباً لا محيص عن يوم خط بالقلم».
«وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفرها أمهات الفراعل».
وقد حاول بعضهم تأويل هذه الروايات بتأويلات ضعيفة لا تقوم أمام النقد العلمي.
وفي الحقيقة إنه لا يصار إلى التأويل إلا عند الضرورة ولا ضرورة هنا للتأويل، فلا يوجد دليل عقلي أو نقلي قطعي الصدور والدلالة يدفع للاعتقاد بأنّ جسد خليفة الله لا يمكن أنْ تتجرأ عليه الحيوانات غير العاقلة، في حين ثبت قطعاً تجرأ الإنسان العاقل على جسده حتى وصل بهم إلى قطع إصبع الحسين (صلوات الله عليه)، وليتهم قطعوني إرباً دون إصبعه بأبي وأمي هو.
الحقيقة إنّ أقل ما يقال: إنّ جسد الإمام كجسد غيره من البشر، ومن يريد إضافة صفة خارقة لجسد الإمام أو خليفة الله في أرضه فعليه بالدليل وإلا فكلامه بلا قيمة علمية. أضف: أنّ المروي أعلاه عن الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وأخته العقيلة (صلوات الله عليها) واضح الدلالة، وعلى الأقل هذا ما يفهم من ظاهره، ولا يمكن طرح الظاهر أو ما يفهم منه بجلاء دون دليل قطعي يمنع الظاهر الجلي للمروي أعلاه.
أيضاً: في قصة يوسف (عليه السلام) قال تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾[يوسف: 13]، ويعقوب خليفة من خلفاء الله ويوسف كذلك، وظاهر قول يعقوب في القرآن حجة ودليل، فيعقوب إذن بحسب القرآن لا يعتقد بهذا الاعتقاد الفاسد، بل يعتقد أنّ يوسف ممكن أنْ يأكله الذئب، وبالتالي خاف عليه من الذئاب وحذّر أبناءه من أنْ يأكل الذئب أخوهم يوسف خليفة الله في أرضه، وأخوة يوسف فهموا واعتقدوا بأنّ الذئب ممكن أنْ يأكل يوسف (عليه السلام)، لهذا أجابوا يعقوب (عليه السلام) بقولهم: ﴿قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَّخَاسِرُونَ﴾[يوسف: 14]. فيعقوب إذن هو الذي جعل أبناءه يعتقدون بعكس ما يعتقد أهل الضلال اليوم، وصرّح أمامهم بقول واضح بأنه يخاف أنْ يأكل الذئب خليفة الله، فهل خفي على نبي الله يعقوب أنّ خليفة الله (عليه السلام) لا يأكله الذئب، بينما لم يخفَ هذا الأمر على أصحاب هذه العقائد الباطلة؟!!
أما القول بأنّ يعقوب (عليه السلام) إنما أراد أمراً باطنياً، وقصد بالذئاب أخوة يوسف (عليه السلام)، فهذا الأمر لا يتعارض مع كون ظاهر قول يعقوب – وما يفهمه منه من يسمعه وما فهمه منه أبناؤه كما هو واضح من ردهم عليه – دال وبوضوح أنّ الذئب يمكن أنْ يأكل خليفة الله في أرضه يوسف (عليه السلام)، كما يمكن أنْ يأكل غيره من الناس.
المصدر: كتاب عقائد الإسلام – السيد أحمد الحسن (ع)