أهم طريق لمعرفة خليفة الله في أرضه هو:
الطريق الأول: الذي عرفت به الملائكة آدم (ع) وهو النص، فقد نص الله سبحانه وتعالى على آدم (ع) ، وإنه خليفته في أرضه:
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ البقرة: 30.
وبعد آدم (ع) كان أيضاً النص هو الطريق لمعرفة خليفة الله في أرضه، ولكن هذه المرّة النص الإلهي يعرف عن طريق الخليفة السابق، فهو ينص بوصية لأمته على الخليفة الذي بعده بأمر الله سبحانه وتعالى، فليس هو الذي يعين الذي بعده، بل الله سبحانه وتعالى هو الذي يعين خليفته في أرضه في كل زمان، فقط يكون دور الخليفة السابق هو إيصال هذا النص الإلهي بالوصية؛ ولذا سمي خلفاء الله في أرضه من الأنبياء والمرسلين بالأوصياء؛ لأنّ السابق يوصي باللاحق ولا يوجد نبي من الأنبياء (ع) أو الأئمة (ع) إلاّ وقد نصّ عليه الذي قبله، فإبراهيم (ع) وإسحاق ويعقوب عليهما السلام والأنبياء من بني إسرائيل (ع) نصّوا على موسى وأوصوا به وموسى والأنبياء (ع) أوصوا بعيسى (ع) ، وعيسى أوصى بمحمد (ص) ، ومحمد (ص) أوصى بعلي (ع) والأئمة (ع) والمهديين من ولده، فلا يوجد فراغ ليملأه غيرهم (ع).
ولكن الأمم انحرفت عنهم فظهر فيها علماء عاملون يرشدون الناس إلى الرجوع إلى طريق الأوصياء (ع) وضرورة إتباعهم والأخذ عنهم فقط، وظهر أيضاً علماء غير عاملين يحاولون تقمص دور الأوصياء (ع) ، كما تقمصها ابن أبي قحافة.
قال أمير المؤمنين (ع): (أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوباً وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه ، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهبا …) نهج البلاغة بشرح محمد عبده: ج1 ص30، الخطبة الشقشقية.
أمّا الطريق الثاني لمعرفة خليفة الله في أرضه فهو: سلاح الأنبياء والأوصياء وهو العلم والحكمة، وهذا يُعرف من كلامهم ومعالجتهم للمشاكل والأمور الواقعة. ولابد للإنسان أن يتجرّد عن الهوى والأنا ليتبيّن حكمتهم وعلمهم (ع)، وبه احتج الله سبحانه على الملائكة:
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ البقرة: 31. فهو خير دليل على خليفة الله في أرضه .
أمّا الطريق الثالث لمعرفة خليفة الله في أرضه فهو: الراية (البيعة لله) أو الملك لله وطالب به الله سبحانه لخليفته الأول آدم (ع).
﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِـي فَقَعُوا لَهُ سَـاجِدِينَ﴾ الحجر: 29.
أي أطيعوه وأتمروا بأمره لأنه خليفتي. وقال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِـي الْمُلْكَ مَنْ تَشَـاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَـاءُ﴾ ال عمران: 26.
وقال تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ الفاتحة: 4. وفي تلبية الحج: (الملك لك لا شريك لك).
فهم لا يداهنون أحداً على حساب هذه الحقيقة وإن كانوا يُتّهمون بسبب حملها، فقديماً قالوا عن عيسى (ع): إنه طامع بملك بني إسرائيل الذي ضيعه العلماء غير العاملين بمداهنتهم الرومان، وقيل عن دعوة محمد (ص): (أنه لا جنة ولا نار ولكنه الملك)، أي إنّ محمداً (ص) جاء ليطلب الملك له ولولده، وقيل عن علي (ع) : (إنه حريص على الملك) مع أنهم يسمعونه يقول: (ما لِعلي وملك لا يبقى) ، ويرون زهده وإعراضه عن الدنيا وزخرفها ، وهذا حال عيسى الذي لا يخفى وحال محمد (ص).
والأنبياء والأوصياء لا يحسبون لاتهام الناس أي حساب كما هو حال العلماء غير العاملين الذين يطلبون رضا الناس بسخط الخالق؛ ولذا فالناس يتبعون العلماء غير العاملين ويحاربون الأنبياء والأوصياء الذين يطالبون بحاكمية الله في أرضه سواء على مستوى التشريع أو التنفيذ أي (الدستور والحاكم)، فلابد أن يكون الدستور إلهياً والحاكم معيناً من قبل الله سبحانه وتعالى، وهذا لا يناسب أكثر الناس الذين يتبعون الشهوات ويرغبون بعافية الدنيا على حساب عافية الآخرة.
وقد أخبرنا العليم الخبير بحال الأكثرية بما لا مزيد عليه:
﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه﴾ الانعام:116.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ هود:17. ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ يوسف:103.
﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ﴾ الصافات:71.
﴿مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ الدخان: 39.
﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ لقمان:25.
﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ العنكبوت:63.
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ القصص:57.
ولا يحتاج الناس إلى أكثر من هذه الآليات الثلاث لمعرفة خليفة الله في أرضه فاجتماعها لا يكون إلاّ في خليفة الله في أرضه، ولكنهم انقسموا كما انقسم الملأ الأول الذي امتحنه الله فآمن الملائكة وسجدوا، وكفر إبليس واستكبر ولم يرض أن يكون بينه وبين الله واسطة (خليفة الله في أرضه)، وهذه الآليات الثلاث حجة تامة من الله سبحانه للدلالة على خليفته في أرضه.
المصدر: كتاب الجهاد باب الجنة – السيد أحمد الحسن (ع)