السيد محمد الشيرازي رد على نظرية دارون في كتاب أسماه (بين الإسلام ودارون)، وقد عرف نفسه في بداية كتابه بأنه: «سماحة المرجع الديني الأعلى الإمام الشيرازي “دام ظله”»،
ولا بأس أن نمر على بعض إشكالاته على علم الجيولوجيا التاريخية وعلى نظرية التطور لنرى هل أن لها قيمة علمية أم أنه “أساء سمعاً فأساء إجابة”، مع العلم أنه سيكتب باسم دارون وينسب كلاما له ثم يرد الشيرازي على ما توهمه هو أنه قول دارون باسم اختاره لنفسه في قصته واسم الشيرازي هو “مسلم”:
كتب الشيرازي في كتابه(1):
«دارون (ما تصوره الشيرازي أنه قول دارون): التجربة هي: الاستقراء وأدلة أخرى.
الاستقراء:
إن الإنسان، إذا استقرأ طبقات الأرض، يجد فيها متحجرات النبات والحيوان والإنسان، ومتحجرات كل طبقة تختلف عن متحجرات سائر الطبقات ـ غالباً ـ وكلّما كان المتحجر أقرب إلى قشرة الأرض، كان أقرب إلى الكمال، وبالعكس كلما كان المتحجر أبعد عن قشرة الأرض، كان أبعد عن الكمال.
المسلم (الشيرازي يرد على ما زعم أنه قول دارون): وأي ربط لهذا الكلام بالتطور، ومعرفة أصل الأشياء، وكون الإنسان كان قرداً؟
دارون (ما تصوره الشيرازي أنه قول دارون): الآن أقول: الربط وهو:
1ـ إن الطبقة السفلى من الأرض اشتملت على متحجرات (المحّار)، (الإسفنج)، (المرجان)، (الجنبري)، (السمك)، (حيوان صدفي ذو خلية واحدة) و(نبات الجت).
2ـ والطبقة الثانية اشتملت على (الصنوبر)، (النخل)، (الزواحف)، (الطيور)، (الأسماك) و(الحيوانات الكيسية).
3ـ والطبقة الثالثة اشتملت على (الثعابين)، (القياطس)، (القردة) و(الأشجار الموجودة الآن).
4ـ والطبقة الرابعة اشتملت على (الفيل الأشعر المنقرض)، (ذوات الأربع الصوفية)، (الإنسان) و(جميع الأشجار الحاضرة)
…………
المسلم (الشيرازي):
أولاً: من أين تثبت هذه المتحجّرات الطبقية التي زعمتها؟ ومن أين تثبت مدّعاك بأن متحجر كل طبقة متطور من متحجرات الطبقة السابقة؟
……………….
خامساً: لو فرضنا عدم وجود الإنسان ـ إطلاقاً ـ في الطبقات السفلى، فهل هذا التدرّج في المتحجّرات، يدل على التطور الذي زعمت؟ وإذا قال لك قائل: إن الله خلق في الطبقات السفلى إسفنجاً… وهكذا، فما جوابك؟
وهل أن وجود سيارة صغيرة في الطابق الأول من العمارة، وسيارة أكبر في طابق ثان، وسيارة أكبر في طابق ثالث… وهكذا، مع اختلاف الهيئات، يدل على تطور السيارة بنفسها، من دون أن تكون كل سيارة قد صُنعت مستقلة؟
وإذا فرضنا: أن نيويورك خُسف بها، ثم بعد ألف عام جاء شخص وكشف عن عمارة كانت السيارات في طوابق إحدى بناياتها، فهل يحق له أن يقول مثل مقالك؟ وما تجيبه أنت إذا قال هذا المقال؟ وما هو الفرق بين مقالك ومقاله؟»(2).
رد: هكذا بجرة قلم وبإشكالات غاية في التفاهة يريد إلغاء علم الجيولوجيا التاريخية بهيله وهيلمانه وقدرته على تحديد عمر الطبقات الأرضية وبالتالي عمر ما تحتويه من كائنات حية متحجرة تبعاً لذلك، فيقول الشيرازي:
«من أين تثبت هذه المتحجّرات الطبقية التي زعمتها؟»،
ثم يزعم بحواره أن العلم أو دارون أو الطرف الآخر في حواريته عجز ولم يتمكن من رد هذا الإشكال أو السؤال!
والظاهر من مثال البناية الذي طرحه السيد محمد الشيرازي أنه يتصور أن علماء الجيولوجيا يصنفون الطبقات الأرضية بناءً على وقوع بعضها فوق بعض فقط هكذا بدون أي ضوابط علمية أو قوانين تمنع الوقوع في الخطأ بدرجة كبيرة فيمر عليهم أمر طبيعي كالخسف أو الزلازل والثورات البركانية أو حركات الطبقات التكتونية الأرضية دون أن ينتبهوا لحدوثها من خلال الضوابط العلمية التي وضعوها للتصنيف، وكان عليه أولاً أن يطلع على كيفية تصنيف الطبقات الأرضية في علم الجيولوجيا، وكيفية تحديد عمر الطبقات، وما هي الآليات المتبعة وطرق الفحص المتبعة، وهل أنها دقيقة علمياً أم لا لكي لا يطرح إشكالاً بهذا المستوى من السذاجة والتفاهة في نفس الوقت الذي يسمي نفسه إماماً وآية الله!
وعموماً، كل باحث عن الحقيقة ما عليه إلا أن يطلع ليجد أن تصنيف عمر الطبقات الأرضية يتم وفق طرق علمية منها:
1- طريقة العمر النسبي(Relative Dating Method) :
وهي تعتمد على أمور، منها: أن أي تتابع للصخور المتطبقة والتي لم تتعرض للتشويه بالتفلق أو الطي الشديد، فإن الطبقة التي في الأسفل تكون أقدم من الطبقة التي تعلوها وهكذا، فتحديد الطبقة السابقة ليس عشوائياً كما يتصور الشيرازي، بل هو تصنيف خاضع لضوابط علمية. وعموماً هذه الطريقة تحدد عمر الطبقات الصخرية بالنسبة لبعضها البعض دون معرفة العمر الحقيقي لكل طبقة.
2- طريقة العمر الحقيقي ((Absolute Dating Method:
وهي تستخدم النظائر المشعة للعناصر، حيث مع مرور الزمن تنحل نواة الذرة ويتكون نظير مشع، وهذا الانحلال يحصل بمعدل زمني ثابت بالنسبة إلى أي عنصر، وبهذا يمكن حساب الفترة الزمنية للطبقة الصخرية الحاوية على نظير مشع بمقارنته بأصله المعروف، ومنذ عشرات السنين وقبل أن يكتب الشيرازي كتابه بفترة طويلة هذه الطريقة معروفة وهي مستخدمة الآن في تحديد عمر الطبقات بدقة عالية، وهناك عدة نظائر مستخدمة لتحديد عمر الصخور والمتحجرات والمواد العضوية منها: نظير الكاربون (C) ونظير الأركون (Ar)…… الخ.
أما قول الشيرازي لعلماء التطور أو لدارون:
«ومن أين تثبت مدّعاك بأن متحجر كل طبقة متطور من متحجرات الطبقة السابقة؟».
فهذا جوابه بسيط جداً، فنحن لدينا طبقات أرضية يقع بعضها فوق بعض فحصناها بطرق علمية دقيقة جداً لا تقبل الخطأ فتبين أن أسفلها هو أقدمها وأعلاها أحدثها، وفارق العمر بينها يصل أحياناً إلى مئات ملايين السنين، ووجدنا أن هذه الطبقات كلما كانت قديمة احتوت على كائنات بدائية وكلما توجهنا باتجاه الزمن الحالي فإنها تحتوي على كائنات أرقى وأكثر تطوراً وتعقيداً وبالتالي فلا يمكن أن يقال: إن كل الخلق تم بدفعة واحدة؛ لأن بعض هذه الكائنات أتت بعد بعضها بمئات ملايين السنين. إذن، فلا مناص بناءً على المعطيات العلمية الدقيقة من الحكم بأنها أتت بعضها بعد بعض، بل والتكثر والتعقيد في الأجسام أتى بعد بساطة سبقته بمئات ملايين السنيين.
ثم جرى تحليلها وتصنيفها ومقارنتها بواسطة علوم دقيقة كالتشريح المقارن وبأحدث أجهزة الفحص فتبين أنها أجيال متطورة من بعضها البعض بحسب الأدلة العلمية والبحثية.
فالآن، من يرفض نتيجة هذا الفحص والتحليل العلمي سيقول: إنها خلقت مباشرة كل دفعة في زمن، ولكنه يحتاج أن يفسر لماذا خلقها الله على دفعات وجعلها تبدو كأنها متطورة من بعضها البعض، هل ليخدع البشر وحاشاه سبحانه؟!
إذن، المسألة بسيطة وهي أنها تطورت بعضها من بعض،
وهذا أمر يمكننا الآن أن نختبره في المختبر ونجري تلاعباً في الجينات ونوجد أنواعاً جديدة من الكائنات الحية.
ويقول الشيرازي:
«تاسعاً: فرض الخلية الأولى حية، لا يكفي للحياة في ملايين الملايين من الأحياء، فمن أين توجد الحياة في هذه الأحياء؟ أرأيت لو كانت هناك قطعة من الحديد، فهل يكفي ذلك لتعليل وجود ملايين الأطنان من الحديد؟ كلا!»(3).
رد: لا أدري هل يعرف الشيرازي شيئاً اسمه التكاثر أم لا؟! وهل يعلم أنه يمكن أن تتكاثر خلية بكتيرية واحدة في المختبر إلى ملايين الخلايا البكتيرية؟! وأظن هذا يكفي لبيان أن تكثر الحياة مسألة طبيعية وعادية جداً لو وجدت المواد الأولية والظروف المناسبة لهذا الأمر، وأعتقد أنه لا يختلف اثنان على أن الأرض توفر ما يكفي لتكثر الحياة عليها، وهذه مسألة يمكن اختبارها في المختبر بسهولة. أما مسألة تنوع الحياة فهي أيضاً مسألة طبيعية جداً وحتمية الوقوع لو علمنا أن هناك أساساً للحياة الجسمانية وهو الخريطة الجينية، وأن هناك طفراً في هذه الخريطة يمكن أن يحصل دائماً ويؤدي إلى التمايز، وإذا وجد التمايز والتكاثر ووسط طبيعي ينتخب الأقدر على العيش فيه ونَقَلَ الكائن الحي جيناته للأجيال التالية بالتكاثر حصل التطور حتماً.
ويقول الشيرازي:
«ثانياً: لو كانت الطبيعة تنتخب الأصلح، فلماذا بقيت النباتات والحيوانات البدائية؟ ولماذا بقيت القرود؟ ولِمَ لم تبدّلها الطبيعة إلى الأفضل؟
ثالثاً: لماذا ترى(4) غير الأصلح يسطو على الأصلح فيعدمه، كما يفترس الأسد الإنسان، والحيوانات السامة كالعقرب والحية تلدغ الإنسان أو الحيوان الأفضل فتقتله؟ والجراثيم (الميكروبات) تفتك بالإنسان الذي هو أصلح؟
رابعاً: لماذا تنتكس الأشياء التي هي أصلح، إلى أشياء غير أصلح، كما يضعف الإنسان ثم يموت ثم يصير تراباً. وهكذا في النبات والحيوان؟
خامساً: لماذا توجد في الحفريات حيوانات بائدة، هي من أعلى صفوف الحيوان، في كبر الجثة وإتقان البنية………
سادساً: ما هي الطبيعة التي تنتخب؟
إذا كانت هي ذات عقل وإدراك وشعور، فما هي؟
وإذا كانت بلا عقل ولا إدراك، فكيف تنتخب؟
أرأيت لو قال أحد: (قد انتخب هذه الحديدة تلك الآجرة قرينة لها)، كان ذلك مثار ضحكٍ واستهزاء؟
فكيف يمكن أن تنسب إلى الطبيعة مثل هذا الانتخاب (المزعوم)، الذي يقع أفضل من انتخاب قاطبة العلماء والحكماء والفلاسفة أصحاب العلم والإدراك والتجربة؟!»(5).
رد: قول محمد الشيرازي: “إن القرود والنباتات لم تتطور”، غير صحيح وهذه المسائل تاريخية ويمكن أن تحسم بسهولة بالمقارنة مع الاحفوريات، فهذه أمور يمكن أن يرجع فيها إلى الحقائق الاثارية والاحفورية المكتشفة، والتي على سبيل المثال أثبتت عدم وجود نباتات لها أزهار سابقاً فالنباتات إذن تطورت، والقرود تبدلت وتطورت فهذه القرود التي نراها اليوم تختلف تماماً عن القرود الأولى ولم يكن لدينا قردة عليا بل قبل سبعين مليون سنة مثلاً لم يكن هناك أي قرد بل كانت موجودة لبائن صغيرة تطورت منها اللبائن الأخرى ومنها القرود بعد انقراض الديناصورات.
أما ايراده قضاء فرد من أفراد الحيوان الأدنى رتبة على فرد من أفراد الحيوان الأعلى رتبة في قوله:
«كما يفترس الأسد الإنسان، والحيوانات السامة كالعقرب والحية تلدغ الإنسان أو الحيوان الأفضل فتقتله؟ والجراثيم (الميكروبات) تفتك بالإنسان الذي هو أصلح»،
واعتباره هذا المثال نقضا على الانتخاب الطبيعي، فهذا يدل على أنه لم يفهم شيئاً من الانتخاب الطبيعي وإلا فالأسد والعقرب والحية والبكتريا والفايروسات كلها تمثل جزءاً من أدوات الطبيعة المحيطة بالنوع المعرض للانتخاب – وهو الإنسان في مثاله – والتي تقوم بانتخاب الأفراد الأصلح للبقاء من ذلك النوع أو القادرين على النجاة واجتياز تلك العقبات وتمرير جيناتهم للجيل التالي، بل حتى بعض أفراد النوع يمارسون هذا الدور على الأفراد الآخرين من النوع نفسه وبضراوة أشد من الأنواع الأخرى؛ لأن مشتركاتهم البيئية أكبر باعتبارهم أفراد نوع واحد.
وسأضرب مثلاً ضمن حدود أمثلة الشيرازي لعل من خدعهم قوله يفهمون ما أقول:
لو فرضنا أننا رجعنا إلى قبل مليوني عام وفي ذلك الوقت يوجد نوع إنساني هو الهومو اريكتس وهذا النوع دماغه صغير (أكبر من دماغ الشمبانزي وأصغر من دماغ الهومو سابينس أو الإنسان الحالي)، والمفروض أن نوعنا الإنساني الهومو سابينس تطور عنه حتى استقل نوعاً برأسه قبل 200 ألف عام تقريباً، الآن لنتصور أننا نراقب مجموعة من الهومو اريكتس تتكون من عشر إناث غير بالغات وعشرة ذكور غير بالغين تحيط بهم حيوانات مفترسة قاتلة كالأسد وأخرى سامة قاتلة كالأفعى والعقرب وبكتريا قاتلة، وهؤلاء العشرون المفروض أنهم متمايزون كما هو الحال دائماً فمنهم من هو طويل وآخر قصير ومنهم من هو مستقيم الساق تماماً وآخر ساقه لا يزال فيها قليل من الانحناء كإرث سابق يقلل من سرعته ومنهم من هو قوي البنية وآخر ضعيف البنية ومنهم من لديه مقاومة ذاتية للجراثيم بدرجة أعلى ومنهم من لديه مقاومة بدرجة أدنى ومنهم من يمتلك دماغاً أكبر من المعدل ومنهم من يمتلك دماغاً أصغر، فالآن إذا تعرضوا لهجمات الحيوانات المفترسة والقاتلة فسينجو عادة الأقوى والأسرع والأذكى ويهلك عادة الأغبى والأضعف والأبطأ فالأذكياء مثلاً سيجدون سبيلاً لتجنب لدغة الأفعى بمعدل أعلى من الأغبياء، وبهذا سيبقى الأذكى (الأكبر والأفضل دماغاً) ويبلغ ويتزاوج ويعبر جيناته لجيل جديد، وهكذا جيلاً بعد جيل بالتمايز والانتخاب والتكاثر سيزداد حجم الدماغ والسيقان المستقيمة رسوخاً، ومقاومة الجسم للبكتريا… الخ، وبنفس الطريقة فالإنسان والغزال والعقرب والأفعى والبكتريا ستشكل جزءاً من أدوات الطبيعة للانتخاب بالنسبة للأسد، فلو كان لدينا أسدان وأحدهما قوي وسريع والآخر أضعف وأبطأ بحيث أن سرعته أقل من معدل سرعة الغزلان والأبقار الوحشية الموجودة في الطبيعة المحيطة به فإنه في الغالب سيهلك أو سيكون ضعيف البنية بحيث إنه لن يتمكن من المنافسة مع الذكور الأخرى والتزاوج والانجاب وتمرير جيناته الى جيل بعده بينما الأسد الآخر القوي والسريع في الغالب سيتمكن من التزاوج والانجاب وتمرير جيناته، وهكذا تنتخب الطبيعة الأقدر على النجاة والبقاء فيها، وبالنسبة للغزال سيكون الأسد هو أداة من أدواة انتخاب الطبيعة وبهذا ستنتخب الطبيعة الغزال الأسرع والأقدر على التملص والنجاة من فكوك المفترسات وهكذا تبقى الجينات الأقدر على مجاراة محيطها وتخرج الجينة التي تعجز عن مجاراة محيطها، هذا هو الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح وليس كما فهمه الشيرازي على أنه يعني عجز الفرد من النوع الأدنى رقياً عن إلحاق الأذى بأي فرد من النوع الأرقى وطرح إشكاله على هذا الأساس من الفهم الخاطئ.
أما بقية إشكالات الشيرازي فهي مبنية على فهمه الخاطئ للانتخاب الطبيعي، ولو أنه عرف أن الانتخاب الطبيعي هو عبارة عن بقاء الأقدر على العيش والتكاثر في الوسط الطبيعي المحيط بالكائنات لما طرح هذه المجموعة الساذجة من الإشكالات، فمعنى الانتخاب الطبيعي مثلاً للحيوان الطويل في بيئة يتوفر فيها الغذاء بمستوى ارتفاع معين هو بقاء الحيوان الذي يكفي طوله لينال الغذاء بوفرة وتوريثه صفة الطول لأبنائه، وأيضاً موت القصير أو عدم حصوله على غذاء وافر ليتمكن من التكاثر ويمرر جيناته لجيل بعده، وأيضاً البيئة التي توفر غذاءً وافراً لحيوان معين تتركه يتضخم عندما يوفر الطفر الجينات المناسبة لتضخم الحجم. فمعنى انتخاب الطبيعة للأصلح هو أن ظروفها تسمح ببقاء بعض أفراد النوع ذات الجينات المفضلة ولا تسمح ببقاء أخرى، بسبب ملائمة هذه الظروف للباقين ومنافاتها للهالكين أو الذين لم يمرروا جيناتهم لجيل بعدهم بسبب عدم التكاثر.
أيضا كتب الشيرازي حواراً تخيّل أنه دار بينه وبين دارون تحت عنوان التطور، فلنرى ما كتبه محمد الشيرازي في هذا:
«دارون: الدليل الثاني، التطور: الذي يحصل في كثير من أنواع الحيوانات، فإنا نرى الإنسان إذا ولد في المناخ البارد صار أبيضاً، وهكذا بالنسبة إلى الحيوان، فنوع واحد من الحيوان له في كل بيئة حالة خاصة وشكل خاص وعادات خاصة، وكذا بالنسبة إلى النبات. وإذا تحقق ذلك لم نجد فرقاً بين التطور العرضي، باختلاف لون وحجم وعادة حيوان واحد ـ بسبب اختلاف المناخ ونحوه ـ وبين التطور الطولي، بسبب انقلاب الخلية نباتاً، والنبات حيواناً، والحيوان إنساناً.
المسلم (الشيرازي): استدلالك عجيب جداً، فإن هناك أمرين:
1ـ أن يختلف الحيوان الواحد أو النبات الواحد أو الإنسان الواحد حسب اختلاف البيئة والمناخ، اختلافاً يسيراً، مع دخول جميع الأفراد تحت نوعية واحدة، كأن يكون إنساناً لكن هذا أسود، وذاك أحمر، وذاك أصفر.
أو يكون جميع آحاده دباً، لكن جميع أفراد دبّ القطب لها صفات معينة. ودبّ المناطق الحارة له صفات أُخرى.
أو يكون جميع آحاده قمحاً، فللقمح العراقي مميزاته، وللقمح الإسترالي مميزاته.
2ـ أن يختلف الشيء الواحد، حسب اختلاف البيئة، اختلافاً جوهرياً، كأن يكون هذا قرداً، وذاك إنساناً، وذلك نباتاً، مع كون الجميع من أصل واحد.
والذي نشاهده ويعلمه الجميع هو القسم الأول.
أما القسم الثاني فما دليلك عليه؟
وهذا مثل أن تقول:
إن الطين كما يمكن أن يُصنع منه الآجر والخزف واللبن، كذلك يمكن أن يُصنع منه الحديد والعاج والماء.
فهل يمكن هذا القياس؟
دارون: أُفكر!
المسلم (الشيرازي): إذن بطل دليلك الثاني، فما هو الدليل الثالث؟»(6).
رد: هناك افتراء على دارون في الحوار الذي تخيّله الشيرازي، فدارون لا يقسم التطور إلى عرضي وطولي كما أنه لا يقول بانقلاب الخلية نباتاً والنبات حيواناً والحيوان إنساناً أبداً، ولا يقول بالطفر النوعي، ولا يوجد من علماء علم الأحياء التطوري الحاليين من يقول بالطفر النوعي وحتى الترقيميين لا يقولون بالطفر النوعي.
أما قول الشيرازي: «والذي نشاهده ويعلمه الجميع هو القسم الأول»،
فيعني أن الشيرازي أقر التطور دون أن يدرك ذلك ولكنه أقره بحدود الفصيلة كفصيلة الدبيات ويرفضه عندما يصل إلى مرحلة افتراق تصنيفي أعلى، وهذا يجعله هو المطالب بتقديم الدليل على توقف التطور الذي قبله عند حدود الفصيلة، فلماذا لا يصل إلى مرحلة افتراق أعلى وهي مرحلة لابد أن يصل لها مع الزمن؛ لأنها تحصيل حاصل لتراكم التطور مع الزمن.
فنحن لدينا طفر جيني يؤدي إلى التمايز قطعاً، ومجموع هذا الطفر الجيني والانتخاب الطبيعي عندما يكون هناك تكاثر يؤدي إلى إحداث صفات جديدة مميزة للكائن الحي مثل اختلاف في الحجم والشكل ونوع الشعر والمخالب… الخ، ومع الزمن تكون اختلافات كبيرة نتيجة تراكمها، وهذه كلها مقبولة عند الشيرازي وأشباهه في حدود الفصيلة الواحدة، أي بتراكم مئات آلاف السنين أو بضعة ملايين ربما، ولكنها غير مقبولة عند الشيرازي عندما تصل إلى حد تمايز فصيلة!! مع أن هذا التمايز نتيجة حتمية وطبيعية لتراكم التمايزات لفترة زمنية أطول، عشرات ملايين السنين مثلاً بحيث تكون كافية لإبراز هذا الافتراق بشكل كبير يجعل الكائن الحي يصنف في علم الأحياء كفصيلة مختلفة.
فهو قبل أن هناك إعادة تشكيل وهيكلة للكائن الحي مستمرة تبعاً لمحيطه بحيث إن هذه الهيكلة وإعادة التشكيل مسؤولة عن تمايز الدب القطبي ودب الشمس مع الاختلاف الفاحش بينهما شكلاً وحجماً ووزناً ولوناً وفي نوع الغذاء والأيض، ولكنه يرفض أن تصل إعادة التشكيل والهيكلة إلى حد التمايز الذي يجعلهما فصيلتين مختلفين مثلاً، وهذا يحتاج أن يُقدم الشيرازي دليلاً عليه؛ لأن التصنيف هو تحصيل حاصل لتراكم إعادة التشكيل والهيكلة فهي عملية تعتمد على الطفر الجيني، والطفر الجيني في الطبيعة قابل لتشكيل الأنواع والأجناس والفصائل نظرياً عندما يتوفر له الوقت الكافي.
وتغيير التركيبة الجينية مسألة مثبتة في المختبر، وهو أمر ممكن سواء بصورة غير مسيطر عليها كما في القصف الاشعاعي، أو بصورة مسيطر عليها كما هو حاصل حالياً بشكل واسع.
بل وصل الأمر إلى بناء خريطة جينية كاملة لبكتريا من مواد كيميائية غير حية، وبهذا فيمكن نظرياً أن ننتج في المختبرات إنساناً من بويضة شمبانزي وحيمن شمبانزي أو من نواة خلية شمبانزي فقط وبويضة امرأة منزوعة النواة، وما نحتاجه فقط تعديل لشجرة كروموسومات الشمبانزي لتصبح بنفس عدد وصورة كروموسومات الإنسان وهو أمر ممكن نظرياً.
بل الأمر يتجاوز هذا بكثير، فكما تم انتاج خريطة جينية كاملة للبكتريا في المختبر من مواد كيميائية غير حية وتم زرعها في سايتوبلازم بكتريا وتمكنت الكروموسومات من الحياة والتكاثر(7) كذلك يمكن انتاج خريطة كروموسومات كاملة لإنسان من مواد كيميائية غير حية، فلا فرق بين كروموسومات البكتريا وكروموسومات الإنسان إلا بقدر الفرق بين بناية صغيرة الحجم وأخرى كبيرة تشتركان بنفس مواد البناء.
هذا مع العلم أن في علم الأحياء يصنف الإنسان والشمبانزي والغوريلا والاورنجوتان على أنها جميعاً من فصيلة واحدة وهي فصيلة القردة العليا، تماماً كما أن الدببة تصنف ضمن فصيلة واحدة وهي فصيلة الدبيّات، ولا يوجد افتراق بين الإنسان وبين الشمبانزي إلا كافتراق دب الشمس عن الدب القطبي بل ربما كانت بعض الفروقات بين جسم الشمبانزي وجسم الإنسان أقل منها بين جسم الدب القطبي وجسم دب الشمس، وهذا يعني أن إقرار الشيرازي المتقدم بأن التطور موجود ويراه ضمن حدود الفصيلة يجعله دون أن يعي ما يقول قد أقر بأن الشمبانزي والبونوبو والإنسان قد تطوروا من أصل مشترك؛ لأنهم أفراد فصيلة واحدة.
أما قوله:
«وهذا مثل أن تقول:
إن الطين كما يمكن أن يُصنع منه الآجر والخزف واللبن، كذلك يمكن أن يُصنع منه الحديد والعاج والماء.
فهل يمكن هذا القياس؟».
فهو بلا معنى؛ لأن صناعة الآجر من الطين لا يمس ذراته على مستوى الجسيمات النووية ليقال: هل يمكن أن نقيس على هذا تحوله إلى عنصر آخر كالحديد مثلاً؛ لأن التحول من عنصر إلى عنصر آخر يحتاج هيكلة الجسيمات النووية وبالتالي فهنا لدينا مستويين مختلفين أصلاً فلا معنى لهذا القياس، ولا معنى لمقارنة الشيرازي لهذا المثال الساذج مع ما يحصل في التطور؛ حيث إن التنويع في التطور يكون على مستوى جزيئي واحد وهو هيكلة الكروموسومات التي لها تركيبة جزيئية واحدة في كل الأحياء وما يختلف فقط ترتيبها في كل كائن حي عن الآخر، حقيقة لو أنه ترك هذا القياس لكان خيراً له. إلى هنا انتهى الرد، ولكن لا بأس بزيادة توضيح:
الشيرازي كما هو ظاهر لا يعرف عما يتكلم، وإلا فنحن في تطور الحياة نتكلم عن إعادة هيكلة وحدات بناء الحياة وهي الكروموسومات وما يمكن أن يقابلها مثالاً في العناصر هو إعادة هيكلة وحدات بناء العناصر وهي أنوية الذرات، والعناصر الكيميائية قابلة لإعادة التشكيل والهيكلة، وكان يمكنه أن يسأل أي عالم كونيات أو فيزياء عن الحديد ليعرف أنه ينتج من عناصر أخرى في الكون حولنا وبكميات هائلة، وهو وغيره كثير من العناصر عبارة عن ناتج عملية الاندماج النووي في النجوم حولنا والتي تؤدي إلى هيكلة وتشكيل العناصر، فعندما يكون كلامنا في المستوى ما دون الذري وإعادة تشكيل نوى الذرات لا يوجد فرق بين الحديد والاوكسجين والكربون والهليوم والهيدروجين، فكلها مبنية من نفس وحدات البناء وبالتالي يمكن إعادة تشكيلها وهيكلتها لإنتاج مواد أخرى من نفس مواد البناء الأولية للعناصر، وهذا هو ما يحصل في النجوم حيث تحرق الهيدروجين والهليوم ونتيجة لاندماج نوى العناصر الخفيفة تنتج نوى عناصر أثقل فيها بروتونات ونيوترونات أكثر، وهكذا يتم انتاج الكربون والاوكسجين وبقية العناصر وصولاً إلى العنصر الأكثر استقراراً وهو الحديد، ثم إذا حصل انفجار مستعر أعظم للنجم تندفع عملية الاندماج النووي أبعد من الحديد نحو عناصر أثقل مثل اليورانيوم.
إذن، يمكننا أن نصنع الحديد من عنصر آخر في حال تحكمنا في جسيمات بناء نواة الذرة (البروتونات والنيوترونات)، وما نحتاجه هو طاقة كبيرة تقربها من بعضها إلى مسافة تعمل عندها القوة النووية القوية وتحصل عملية اندماج نووي وهذا يتوفر في النجوم مثلاً، ولهذا فإنتاج عنصر من عنصر آخر يحدث حولنا في الكون دائماً، بل هناك طريقة أسهل لإنتاج أنوية أخف من أنوية أثقل وهي عملية الانشطار النووي وفيها لا نحتاج إلى طاقة كبيرة للتقريب بين الجسيمات بل ما نحتاجه فقط تشجيع نواة غير مستقرة كنواة اليورانيوم 235 على الانشطار، وهذا ما يحصل في مفاعلات الطاقة النووية ولكن بصورة مسيطر عليها مثلاً بإضافة مادة مثل سبيكة الكادميوم لتمتص النيوترونات الزائدة عن الحاجة لتسير عملية الانشطار النووي بمعدل مقبول ولا تسير عملية الانشطار بمعدل أسي غير مسيطر عليه وتصبح قنبلة نووية.
(1) . محمد الشيرازي. بين الاسلام ودارون. الطبعة الأولى 1392 هـ / 1972 م. متاح على:
http://www.alshirazi.com/compilations/nirai/darwin/fehres.htm
(2) . محمد الشيرازي. بين الاسلام ودارون ـ فصل : الاستقراء. الطبعة الأولى 1392 هـ / 1972 م. متاح على : http://www.alshirazi.com/compilations/nirai/darwin/part1/2.htm
(3) . محمد الشيرازي. بين الاسلام ودارون ـ فصل: الاستقراء. الطبعة الأولى 1392 هـ / 1972 م. متاح على: http://www.alshirazi.com/compilations/nirai/darwin/part1/2.htm
(4) . في النسخة الالكترونية: (لا ترى)، وهذا يجعل النص متناقض، لهذا ربما هو خطأ مطبعي او اشتباه.
(5) . المصدر (الشيرازي، بين الاسلام ودارون): انتخاب الاصلح.
(6). المصدر السابق.
(7) . بروفسور كريج فينتر يصنع أول خلية حية في المختبر.
Richard Alleyne (20 May 2010). Scientist Craig Venter creates life for first time in laboratory sparking debate about ‘playing god’. Telegraph. Available at :
https://www.telegraph.co.uk/science/7745868/Scientist-Craig-Venter-creates-life-for-first-time-in-laboratory-sparking-debate-about-playing-god.html