سؤال واحد يسقط نظرية الخلق دفعة ودون تطور وهو: لقد ثبت قطعاً ويقيناً من الجيولوجيا التاريخية أن طبقات الأرض كلما كانت أقدم كانت تحتوي أحياء برتبة أدنى وكلما كانت أحدث كانت تحتوي على كائنات أرقى من سابقتها والأمر متدرج من البكتريا إلى حقيقة النواة إلى متعدد الخلية وصولاً إلى أسماك العالم القديم مروراً بالفقريات والأسماك ثم البرمائيات والحيوانات البرية ثم اللبائن ثم تنوع اللبائن وتضخمها… الخ، فلماذا خلق الله الخلق بدفعات في فترات زمنية مختلفة وكل فترة يخلق فيها مجموعة مخلوقات أكثر رقياً من سابقتها بحيث من يراها يتصور أنها متطورة عن سابقتها، هل يريد الله أن يخدعنا مثلاً برأي هؤلاء منكري نظرية التطور؟! تعالى الله عن ذلك.
وهل لديهم تفسير علمي منطقي غير التطور لهذه الدفعات المتوالية زماناً ورقياً وتعقيداً؟ ولو أخذنا كمثال: الحيتان والدلافين التي تعيش الآن في الماء وتعتبر متطورة عن لبائن كانت تعيش على اليابسة، فسنجد في الاحفوريات المكتشفة حتى الآن سلسلة كائنات متوسطة متوالية الظهور زماناً يفصل بعضها عن بعض ملايين السنين تبدأ كلبائن برية ثم تتدرج للنزول في الماء والعيش فيه، وكل مجموعة نجدها تتطور أكثر للعيش في الماء بكل سلاسة حتى وصلنا في النهاية إلى الحوت، فهل هناك تفسير معقول أو جواب معقول عن سبب خلق الله لهذه الكائنات وبفترات زمنية متوالية بحيث إن من يراها يجزم أن الحوت هو نتيجة حتمية لهذه السلسلة من الكائنات المتوالية الظهور زماناً والمتوالية التطور نحو الحياة في الماء؟!!
أعتقد أنه لا يوجد جواب منطقي إلا القول بالتطور، وإلا فالجواب الآخر المخالف للعلم سيكون اتهاماً لله سبحانه بأنه فعل كل هذا وبهذا الترتيب ليخدع الناس وحاشاه سبحانه.
ثم ننظر للحيتان والدلافين نجدها تسبح بتموج جسمها إلى الأعلى والأسفل أي تماماً كحركة ركض اللبائن البرية وليس كما تفعل الأسماك حيث تسبح عادة بالتموج إلى الجانبين وننظر للحيتان نجدها تلد وترضع صغارها اللبن من غدد لبنية تماماً كاللبائن.
نجدهم بعض الأحيان يحيلون إلى كُتُب وكُتّاب من علماء الأحياء والجينات الذين عارضوا أو انتقدوا نظرية التطور دون أن ينتبهوا إلى أن بعض هؤلاء لا يقولون ببطلان نظرية التطور بل هم يرون أن نظرية التطور مسيَّرة، أو أنهم يطرحون نظرية تطور بصورة وحلِّة جديدة، مثلاً: يختلفون في آلية الطفر (سرعته، توقفه،..) المؤثر في التنويع البيولوجي،
والفرق كبير بين من يقول إن نظرية التطور صحيحة ولكن هناك إله يُسيَّر عملية التطور وبين من يقول إن نظرية التطور غير صحيحة، فما يجمع بين الاثنين هو الاعتراف بوجود إله وليس القول ببطلان نظرية التطور.
هذا إضافة الى أنه ليس كل قول لعالم أحياء هو قول ذو قيمة علمية، فالمفروض أن لا يطرح الرأي فقط خصوصاً عندما يعرضه شخص ويتبناه بل لابد أن يعرض الاستدلال عليه ليرى الناس إن كان الرأي ذا قيمة علمية أم أنه رأي تم رده علمياً وانتهى أمره، فهناك جامعات ومراكز بحوث حول العالم وهي تعتمد مقاييس علمية دقيقة وفيها من يقيمون البحوث والكتب والانتقادات الموجهة للنظريات العلمية، ولو كان هناك نقد علمي ذا قيمة علمية من متخصص لتلاقفته هذه الجامعات وهذه المراكز العلمية ولتم نشره والترويج له وعقدت حوله الندوات العلمية، ولكن ما نراه هو عكس هذا تماماً فنظرية التطور الآن في كل الجامعات الرصينة والعريقة حول العالم هي المفسر الوحيد لوجود الحياة على الأرض،
فعلى الأقل بالنسبة لمن يريد أن يبحث بنفسه عن الحقيقة وبصورة علمية بحثية فعليه أولاً أن يتسلح بمعرفة لا بأس بها في علم الجيولوجيا التاريخية وعلم الأحياء التطوري وعلم الجينات والانثروبولوجي (علم الإنسان) والاركيولوجي (علم الآثار) ومن ثم يقرأ الانتقادات العلمية لنظرية التطور والرد عليها ليكون موقفه علمياً رصيناً ذا قيمة عند العقلاء،
أما أن يأتي ويقول قام فلان عالم أحياء بالرد على نظرية التطور بكتاب كذا ولهذا فهي باطلة، أو قال فلان عالم كذا عن نظرية التطور ولهذا فهي باطلة، أو حتى يصل الأمر إلى الاستدلال بغير أهل الاختصاص لتقييم النظرية، فهذه حقيقة مواقف ارتجالية وغير علمية؛ لأن هذه الردود عندما تقرأ نقدها العلمي تجدها بعض الأحيان ردوداً فاقدة للمصداقية بحيث إن بعضهم يعرضون نظرية التطور بصورة محرفة ومقلوبة ثم يقومون بالرد عليها وكأنها ردود وضعت للعامة التي لا تعرف شيئاً عن نظرية التطور، وأداة تسويق هكذا بحوث تافهة بين العامة ليس كونها ردود علمية بل كون مؤلفها يحمل شهادة عليا في علم الأحياء أو حتى بعيد عن الاختصاص كالكوزمولوجي.
وخلاصة القول: من يدعي أنه يريد الرد على نظرية التطور، فلا داعي أن يذهب بها عريضة بل يكفيه أن يرد على نظرية التطور كما هي مطروحة الآن في الجامعات العريقة والرصينة حول العالم وليس كما يتوهمها هو بناء على طرح خاطئ لها يعرضه بعض معارضيها.
تنبيه: لاحظت لدى كل المعترضين على نظرية التطور أنهم يكررون الإشكالات نفسها التي طرحها ويطرحها علماء التطور أنفسهم وأجابوا عنها، وهذا أمر غير لائق بمن يدعي العلم ويدعي أنه يرد على نظرية التطور رداً علمياً، فالمفروض أن يقرأ ويرى أن إشكالاته قد رد عليها علماء التطور وبعضها طرحها دارون بنفسه وردها منذ القرن التاسع عشر، فأما أن يكون من يكرر الإشكالات عاجزاً عن مناقشة ردود علماء التطور على الإشكالات وتفنيدها أو أنه لم يقرأ ما كتبه علماء التطور ولم يطلع على أنهم كانوا أول من طرح هذه الإشكالات وعشرات غيرها وردوها، وفي كلا الحالين ما كان له أن يكتب بجهل.
المصدر: كتاب وهم الإلحاد – السيد أحمد الحسن