سنناقش النسيان المنسوب لبعض خلفاء الله في بعض الآيات القرآنية، ونبيّن أنه نسيان وترك عن غفلة،
ونتعرض أيضاً لمحاولة حرف المعنى عن السهو والنسيان ونبيّن ركاكتها.
◄ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ
والناسيان هنا هما خليفتان من خلفاء الله في أرضه، أحدهما موسى بن عمران والآخر يوشع بن نون وصيه، ولا يصح قول بعضهم: إن معنى نسيا حوتهما أي تركاه عن علم ومعرفة؛ حيث لو كان الأمر كذلك لكان الكلام بعدها والسؤال عن الحوت سفه لا معنى له، أو أنه سيكون نفس سبب السؤال عن الحوت نسيان وسهو لما فعلاه سابقاً عن عمد وهو ترك الحوت عند الصخرة. أيضاً: في الآية الأخرى أكد النسيان يوشع بن نون وأنه نسيان وترك عن غفلة وليس تركاً عن علم؛ حيث إنه بيّن أنّ سبب نسيانه الحوت هو الشيطان أي الظلمة أو النقص التي في صفحة وجوده، فهو ليس كمالاً مطلقاً ولهذا فهو ينسى ويترك الحوت عن غفلة وعدم علم بما فعل في وقتها.
وبنفس المعنى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
فالشيطان هنا هو الظلمة والنقص، فالنور الذي لا ظلمة فيه والكامل المطلق هو الله سبحانه وتعالى لا غير.
﴿قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً* قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً﴾[الكهف: 67 – 73].
في الآيات طلب العبد ﴿عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا﴾ من نبي الله موسى (عليه السلام) أن لا يسأله عن شيء حتى يبادر هو بإخباره عنه، وموسى تعهد أن يكون صابراً أي لا يسأل العبد عن الأمور التي سيلاقونها في طريقهم، ولكن الذي حصل عكس ذلك فموسى لم يصبر كما وعد هو بذلك، وفي أول حادثة بادر بسؤال العبد بل والاعتراض عليه وعلى فعله رغم أن موسى قال إنه سيكون مطيعاً للعبد ولا يعصيه ﴿وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً﴾.
وهنا يتبادر أمران، وهما:
الأول: إنّ موسى ترك تنفيذ وعده للعبد عن علم وانتباه تام، وهذا يعني أنّ موسى وقع بالمحذور وأخلف – عن عمد – وعده وتعهده للعبد، وخالف الله الذي وجهه للتعلم من العبد الذي وصفه بـ ﴿عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا﴾ وليس الاعتراض عليه ومجادلته ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾ [الكهف: 65 – 66]، وفي نهاية القصة صرّح العبد بكل وضوح: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾، فموسى يعلم جيداً أنّ علم العبد من الله، وهو طلب منه أنْ يتبعه ليعلمه ممّا علمه الله.
أي أنّ موسى (عليه السلام) – بحسب هذا الفرض – كان يسأل ويعترض على العبد، وهو يعلم أنه يسأل ويعترض على الله، وأيضاً وهو يعلم أنه يخالف وعده وتعهده.
في الحقيقة هذه هي النتيجة التي يصل لها من يحاولون تنزيه موسى (عليه السلام) أو المعصومين عموماً من السهو والنسيان كما يدّعون، فقد اتهموا موسى (عليه السلام) – وهو إمام ونبي من أولي العزم – بتهم عظيمة لا يمكن اتهام موسى (عليه السلام) بها بأي حال من الأحوال.
الثاني: إنّ موسى ترك وعده وتعهده عن غفلة، أي أنه نسي أو غفل عن وعده وتعهده للعبد، وبالتالي فهو معذور ولم يقع بالمحذور، وهذا هو ما صرح به موسى (عليه السلام) بكل وضوح: ﴿قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ﴾.
وموسى كان في عبادة كالصلاة والصيام والحج، فمرافقة موسى للعبد كانت بأمر تعبدي إلهي، وأيضاً الإيفاء بالتعهد والوعد عبادة بالنسبة لموسى (عليه السلام) في هذا الموقف.
المصدر: كتاب عقائد الإسلام – السيد أحمد الحسن (ع)
وردت رواية في مختصر بصائر الدرجات في تفسير هذه الآية:
«وعنه ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب وغيرهما عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن هشام بن سالم عن سعد بن طريف الخفاف قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) ما تقول فيمن اخذ عنكم علما فنسيه، قال: لا حجة عليه إنما الحجة على من سمع منا حديثا فأنكره أو بلغه فلم يؤمن به وكفر، فأما النسيان فهو موضوع عنكم ان أول سورة نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) “سبح اسم ربك الأعلى” فنسيها فلا يلزمه حجة في نسيانها ولكن الله تعالى أمضى له ذلك ثم قال: سنقرئك فلا تنسى» مختصر بصائر الدرجات: ص93.
أيضاً وردت رواية في تفسير الإمام الحسن العسكري في هذه الآية:
«قال الإمام (عليه السلام) : قال محمد بن علي بن موسى الرضا (عليهم السلام) : (ما ننسخ من آية) بأن نرفع حكمها (أو ننسها) بأن نرفع رسمها، ونزيل عن القلوب حفظها وعن قلبك يا محمد كما قال الله تعالى (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) أن ينسيك فرفع ذكره عن قلبك» تفسير الإمام العسكري (ع): ص491.
يفسر بعضهم الآية في أنّ المعصوم لا يسهو في أي شيء مطلقاً، مع أنّ الآية لا تدل على ما ذهبوا إليه، فالآية واضحة: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾، أي لا تنسى ما نقرؤك، فمن يعدّيها – لغير ما نقرؤك أو الوحي الإلهي – يحتاج دليلاً على ما يقول، فما نقرؤك تشمل القرآن والوحي الإلهي، وبهذا فالآية لا تدل على أكثر من امتناع سهو المعصوم في التبليغ أو في حفظ ما يقرؤه الله سبحانه وتعالى بعد نزول هذه الآية، وهذا لا يشمل العبادة ولا غيرها، وعدم سهو المعصوم في التبليغ عن الله ليس موضع الخلاف.
بل قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ﴾ وهو استثناء؛ يدل بلا شك على أنّ المعصوم كغيره من البشر مبتلى بالسهو والنسيان، وإنما يعصمه الله من السهو والنسيان في مواضع للضرورة والحاجة لذلك، فيكون المعنى إلا ما شاء الله أنْ تنساه من أمور أخرى لا توجد حاجة وضرورة ليعصمك الله عن النسيان والسهو فيها، كغيرك من البشر الذين يعرض لهم السهو والنسيان، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾.
المصدر: كتاب عقائد الإسلام – السيد أحمد الحسن (ع)